للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَاحِدَةٍ، كَبَوَارِجِ الْحَرْبِ وَسُفُنِ التِّجَارَةِ وَمَعَامِلِ الصِّنَاعَةِ، فَإِذَا كَانَ الصَّلَاحُ وَالنِّظَامُ فِي كُلِّ أَمْرٍ يَتَوَقَّفُ

عَلَى طَاعَةِ الرَّئِيسِ وَهُوَ لَيْسَ رَبًّا تَجِبُ طَاعَتُهُ لِذَاتِهِ وَلَا لِنِعَمِهِ، وَلَا مَعْصُومًا مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ، فَمَا الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ طَاعَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى عَبِيدِهِ؟ ! وَيُشَارِكُ إِبْلِيسَ فِي هَذَا الْجَهْلِ وَمَا قَبْلَهُ كَثِيرُونَ مِمَّنْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ مُؤْمِنِينَ: يَتْرُكُونَ طَاعَةَ اللهِ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِمَّا يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ، وَيَحْتَجُّونَ عَلَى تَرْكِ الصِّيَامِ مَثَلًا بِأَنَّ لَا فَائِدَةَ فِي الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، أَوْ بِأَنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ صِيَامِهِمْ! ! عَلَى أَنَّ حِكَمَ الصِّيَامِ كَثِيرَةٌ جَلِيَّةٌ كَمَا بَيَّنَّاهَا مِرَارًا فِي التَّفْسِيرِ (ص١١٧ وَمَا بَعْدَهَا ج ٢ ط الْهَيْئَةِ) . وَفِي الْمَنَارِ.

رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " أَوَّلُ مَنْ قَاسَ أَمْرَ الدِّينِ بِرَأْيِهِ إِبْلِيسُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لَهُ اسْجُدْ لِآدَمَ فَقَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ". إِلَخْ. قَالَ جَعْفَرٌ فَمَنْ قَاسَ أَمْرَ الدِّينِ بِرَأْيِهِ قَرَنَهُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِإِبْلِيسَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ. أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ.

(الرَّابِعُ) الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْخَيْرِيَّةِ بِالْمَادَّةِ الَّتِي كَانَ مِنْهَا التَّكْوِينُ. وَهَذَا جَهْلٌ ظَاهِرٌ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ خَيْرِيَّةَ الْمَوَادِّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ لَيْسَ مِنَ الْحَقَائِقِ الَّتِي يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِالْبُرْهَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ اعْتِبَارِيَّةٌ تَخْتَلِفُ فِيهَا الْآرَاءُ وَالْأَهْوَاءُ. وَأُصُولُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ التَّرْكِيبِ عَنَاصِرٌ بَسِيطَةٌ قَلِيلَةٌ يُرَجَّحُ أَنَّهَا مُتَحَوِّلَةٌ عَنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ فَنِّ الْكِيمْيَاءِ.

(ثَانِيهَا) أَنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ أَصْلُهَا خَسِيسٌ، فَالْمِسْكُ مِنَ الدَّمِ، وَجَوْهَرُ الْأَلْمَاسِ مِنَ الْكَرْبُونِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْفَحْمِ، وَالْأَقْذَارِ الَّتِي تُعَافَ مِنْ مَادَّةِ الطَّعَامِ الَّذِي يُشْتَهَى وَيُحَبُّ.

(ثَالِثُهَا) أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خُلِقُوا مِنَ النُّورِ وَهُوَ قَدْ خُلِقَ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَهُوَ اللهَبُ الْمُخْتَلِطُ بِالدُّخَّانِ فَمَا فَوْقَهُ دُخَّانٌ وَمَا تَحْتَهُ لَهَبٌ صَافٍ، فَإِنَّ مَادَّةَ الْمَرْجِ مَعْنَاهَا الْخَلْطُ وَالِاضْطِرَابُ.

وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ النُّورَ خَيْرٌ مِنَ النَّارِ، وَالنَّارُ الصَّافِيَةُ خَيْرٌ مِنَ اللهَبِ الْمُخْتَلِطِ بِالدُّخَانِ. وَقَدْ سَجَدَ الْمَلَائِكَةُ الْمَخْلُوقُونَ مِنَ النُّورِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى فَكَانَ هُوَ أَوْلَى، بَلْ أَوْلَى بِأَنْ يُقَالَ لَهُ: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى.

(الْخَامِسُ) إِذَا سَلَّمْنَا جَدَلًا أَنَّ خَيْرِيَّةَ الشَّيْءِ لَيْسَتْ فِي ذَاتِهِ وَصَفَاتِهِ الْخَاصَّةِ الَّتِي تَفْصِلُهَا عَنْ غَيْرِهَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ نَوْعِهِ وَمُشَخِّصَاتِ نَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَابِعَةٌ لِلْمَادَّةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ جِنْسِهِ - فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّارَ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَحْيَاءِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مَخْلُوقَةٌ مِنَ الطِّينِ بِالذَّاتِ أَوْ بِالْوَاسِطَةِ، وَهِيَ خَيْرُ مَا فِيهَا بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الِاعْتِبَارَاتِ الَّتِي تَعْرِفُهَا الْعُقُولُ، وَلَيْسَ لِلنَّارِ أَوْ لِمَارِجِهَا مِثْلَ هَذِهِ الْمَزَايَا وَلَا مَا يَقْرُبُ مِنْهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>