للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(السَّادِسُ) أَنَّ اللَّعِينَ غَفَلَ عَمَّا خَصَّ اللهُ بِهِ آدَمَ مِنْ خَلْقِهِ بِيَدِهِ، وَالنَّفْخِ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَجَعْلِ اسْتِعْدَادِهِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَمَلِيِّ فَوْقَ اسْتِعْدَادِ غَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَمِنْ تَشْرِيفِهِ بِأَمْرِ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَجَعْلِهِ بِتِلْكَ الْمَزَايَا أَفْضَلَ مِنْ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ، وَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ إِبْلِيسٍ بِعُنْصُرِ الْخِلْقَةِ وَبِالطَّاعَةِ.

فَهَذِهِ أُصُولُ الْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ الَّتِي أَوْقَعَ إِبْلِيسَ فِيهَا حَسَدُهُ لِآدَمَ وَاسْتِكْبَارُهُ عَنْ طَاعَةِ اللهِ بِالسُّجُودِ لَهُ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ وَنُظَرَاءَهُ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ مُرْتَكِسُونَ فِيهَا كُلِّهَا وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى، قَالَ قَتَادَةُ: حَسَدَ عَدُوُّ اللهِ إِبْلِيسُ آدَمَ عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الْكَرَامَةِ وَقَالَ: أَنَا نَارِيٌّ وَهَذَا طِينِيٌّ، فَكَانَ بَدْءُ الذُّنُوبِ الْكِبْرَ، وَاسْتَكْبَرَ عَدُوُّ اللهِ أَنْ يَسْجُدَ لِآدَمَ فَأَهْلَكَهُ اللهُ بِكِبْرِهِ وَحَسَدِهِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ الْكِبْرِ وَالتَّكَبُّرِ.

وَهَذَا التَّفْصِيلُ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ لِلتَّكْلِيفِ، وَأَنَّهُ وَقَعَ حِوَارٌ فِيهِ بَيْنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلتَّكْوِينِ (كَمَا سَيَأْتِي عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ) وَأَنَّ الْقِصَّةَ بَيَانٌ لِغَرَائِزِ الْبَشَرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيْطَانِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مَلَائِكَةَ الْأَرْضِ الْمُدَبَّرَةَ بِأَمْرِ اللهِ وَإِذْنِهِ لِأُمُورِهَا بِالسُّنَنِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ نِظَامِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) (٧٩: ٥) مُسَخَّرَةً لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، إِذْ خَلَقَ اللهُ هَذَا النَّوْعَ مُسْتَعِدًّا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا كُلِّهَا بِعِلْمِهِ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِيهَا، وَبِعَمَلِهِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَنِ كَخَوَاصِّ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالْكَهْرَبَاءِ وَالنُّورِ وَالْأَرْضِ مَعَادِنِهَا وَنَبَاتِهَا وَحَيَوَانِهَا، وَإِظْهَارِهِ لِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ فِيهَا، وَمُسْتَعِدًّا لِاصْطِفَاءِ اللهِ بَعْضَ أَفْرَادِهِ، وَاخْتِصَاصِهِمْ بِوَحْيِهِ وَرِسَالَتِهِ، وَإِقَامَةِ مَنِ اهْتَدَى بِهِمْ لِدِينِهِ وَمِيزَانِ شَرْعِهِ. وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) (٢: ٣١) إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الشَّيْطَانَ عَاتِيًا مُتَمَرِّدًا عَلَى الْإِنْسَانِ بَلْ عَدُوًّا لَهُ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِنْسَانَ بِرُوحِهِ وَسَطٌ بَيْنِ رَوْحِ الْمَلَائِكَةِ الْمَفْطُورِينَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَإِقَامَةِ سُنَنِهِ فِي صَلَاحِ الْخَلْقِ، وَبَيْنَ رُوحِ الْجِنِّ الَّذِينَ يَغْلِبُ عَلَى شِرَارِهِمْ - وَهُمُ الشَّيَاطِينُ - التَّمَرُّدُ وَالْعِصْيَانُ، وَقَدْ أَعْطَى الْإِنْسَانَ إِرَادَةً وَاخْتِيَارًا مِنْ رَبِّهِ فِي تَرْجِيحِ مَا بِهِ يَصْعَدُ إِلَى أُفُقِ الْمَلَائِكَةِ، وَمَا بِهِ يَهْبِطُ إِلَى أُفُقِ الشَّيَاطِينِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي هَذَا السِّيَاقِ.

وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْمَبَاحِثِ اللُّغَوِيَّةِ زِيَادَةُ " لَا " فِي جُمْلَةِ " مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ " إِذْ قَالَ فِي سُورَةِ " ص ": (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) (٣٨: ٧٥) وَقَدْ عُهِدَ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ أَنْ تَجِيءَ " لَا " فِي سِيَاقِ النَّفْيِ الصَّرِيحِ وَغَيْرِ الصَّرِيحِ لِتَقْوِيَتِهِ وَتَوْكِيدِهِ، وَكَذَا فِي

غَيْرِ النَّفْيِ وَذَلِكَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ. وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَحَاوُرِ مُوسَى وَهَارُونَ مِنْ سُورَةِ طَهَ: (قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) (٢٠: ٩٢، ٩٣) وَعَدُّوا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ) (٦: ١٠٩) ،

<<  <  ج: ص:  >  >>