للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) (الْآَيَةَ ١٧: ٦٤) مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى (إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) (٧: ٢٨) وَإِنَّمَا يُشْكِلُ هَذَا كُلُّهُ عَلَى مَا جَرَوْا عَلَيْهِ مِنْ جَعْلِ الْخِطَابِ لِلتَّكْلِيفِ. وَأَمَّا إِذَا جَعَلَ الْخِطَابَ لِلتَّكْوِينِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ كَثِيرٍ فَلَا إِشْكَالَ، لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ بَيَانِ الْوَاقِعِ مِنْ صِفَةِ طَبِيعَةِ الْبَشَرِ وَطَبِيعَةِ الشَّيْطَانِ وَاسْتِعْدَادِهِمَا وَأَعْمَالِهِمَا الِاخْتِيَارِيَّةِ.

وَلِلْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِيهَا جَدَلٌ طَوِيلٌ، فَالْأَوَّلُونَ يُثْبِتُونَ الْإِغْوَاءَ وَالْإِضْلَالَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَنْفُونَ رِعَايَةَ الرَّبِّ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي كُلٍّ مِنْ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَيَجْعَلُونَ الْإِنْسَانَ مَجْبُورًا فِي صُورَةِ مُخْتَارٍ، وَالْآخَرُونَ

يُخَالِفُونَهُمْ، فَنَدَعُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ الْجَدَلِيَّةِ لِابْنَيْ بَجْدَتِهَا الرَّازِيِّ وَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَنَخْتِمُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِبَيَانِ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ الشَّيَاطِينِ وَكَشْفِ شُبْهَةِ الْمُسْتَشْكِلِينَ لَهُ وَلِخَلْقِ الْإِنْسَانِ مُسْتَعِدًّا لِقَبُولِ إِغْوَائِهِ فَإِنَّهَا مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ هُنَا حَتَّى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ السِّيَاقَ كُلَّهُ لِبَيَانِ حَقِيقَةِ التَّكْوِينِ.

حِكْمَةُ خَلْقِ اللهِ الْخَلْقَ وَاسْتِعْدَادُ الشَّيْطَانِ وَالْبَشَرِ لِلشَّرِّ:

اعْلَمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ الْعُلْيَا لِخَلْقِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ هِيَ أَنْ يَتَجَلَّى بِهَا الرَّبُّ الْخَالِقُ لَهَا بِمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، لِيُعْرَفَ وَيُعْبَدَ، وَيُشْكَرَ وَيُحْمَدَ، وَيَحْكُمَ وَيَجْزِيَ فَيَعْدِلَ وَيَغْفِرَ وَيَعْفُوَ وَيَرْحَمَ، إِلَخْ. فَهِيَ مَظْهَرُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَمَجْلَى سُنَنِهِ وَآيَاتِهِ، وَتُرْجُمَانُ حَمْدِهِ وَشُكْرِهِ، (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (١٧: ٤٤) لِذَلِكَ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ وَالنِّظَامِ، الدَّالَّيْنِ عَلَى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَوَحْدَانِيَّةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (٢٧: ٨٨) (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٣٢: ٧) كَمَا نَطَقَ الْقُرْآنُ، الْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْهِ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ بَلْ لَيْسَ فِي خَلْقِهِ مَا هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا الشَّرُّ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ، مَدَارُهُ عَلَى مَا يُؤْلِمُ الْأَحْيَاءَ أَوْ تَفُوتُ بِهِ مَصْلَحَةٌ أَوْ مَنْفَعَةٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَيَكُونُ شَرًّا لَهُ إِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ أَعَظَمُ، أَوْ دَفْعُ مَفْسَدَةٍ أَكْبَرَ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَأَلَّمُ مِنَ الدَّوَاءِ الَّذِي يُزِيلُ مَرَضَهُ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ أَوْ أَطْوَلُ إِيلَامًا مِنْهُ، وَقَدْ تَفُوتُهُ مَنْفَعَةٌ صَغِيرَةٌ يَكُونُ فَوْتُهَا سَبَبًا لِمَنْفَعَةٍ أَكْبَرَ مِنْهَا، كَالَّذِي يَبْذُلُ مَالَهُ فِي الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لِمِلَّتِهِ وَوَطَنِهِ فَيُكْرَمُ وَيَكُونُ قُدْوَةً فِي الْخَيْرِ. وَحَظُّهُ مِنْ كَرَامَةِ الْأُمَّةِ وَعُمْرَانِ الْوَطَنِ أَعْظَمُ مِمَّا بَذَلَ مِنَ الْمَالِ، وَفَوْقَ ذَلِكَ مِنْ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ - وَهِيَ سَبِيلُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ - ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ وَالزُّلْفَى عِنْدَهُ.

وَقَدْ كَانَ مِنْ مُقْتَضَى تَحَقُّقِ مَعَانِيَ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى أَنْ يَخْلُقَ مَا عَلِمْنَا وَمَا لَمْ نَعْلَمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَنْ تَكُونَ الْمُقَابَلَاتُ وَالنِّسَبُ بَيْنَ بَعْضِهَا مُخْتَلِفَةً مِنْ تَوَافُقٍ وَتَبَايُنٍ وَتَضَادٍّ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ فِي نِظَامِ الْخَلْقِ أَنَّ الضِّدَّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ، وَأَنْ تَكُونَ مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ، وَأَنْ يُسِيءَ بَعْضُهُمْ إِلَى نَفْسِهِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>