بَعْضُهُمْ مَفْطُورًا عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ، دَائِبًا عَلَى عِبَادَتِهِ وَحَمْدِهِ وَشُكْرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مُخْتَارًا فِي عَمَلِهِ، مُسْتَعِدًّا لِلْأَضْدَادِ فِي مَيْلِهِ وَطَبْعِهِ، يَتَنَازَعُهُ عَامِلَا الْكُفْرِ وَالشُّكْرِ، وَتَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَقِيقَتَا التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ، وَتَتَجَاذَبُهُ دَاعِيَتَا الْفُجُورِ وَالْبِرِّ، فَيَكُونُ لِشُكْرِهِ وَبِرِّهِ وَطَاعَتِهِ لِرَبِّهِ مِنْ عِظَمِ الشَّأْنِ مَعَ مُعَارَضَةِ الْمَوَانِعِ مَا لَيْسَ
لِلْفُطُورِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ يَعْصِي فَيُفِيدُهُ الْعِصْيَانُ خَوْفًا وَرَهْبَةً، وَيَحْمِلُهُ عَلَى التَّوْبَةِ فَيَكُونُ لَهُ أَوْفَرُ حَظٍّ مِنِ اسْمَيِ الْعَفُوِّ الْغَفُورِ وَقَدْ يَسْتَكْبِرُ عَنِ الطَّاعَةِ وَالْإِيمَانِ وَيُصِرُّ عَلَى الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، فَيَكُونُ مَوْضِعًا لِعِقَابِ الْحَكَمِ الْعَدْلِ، وَآيَةٌ فِيهِ عَلَى تَنَزُّهِهِ تَعَالَى عَنِ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ.
وَلَا نَعْرِفُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَلْقِ مَفْطُورًا عَلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، مَجْبُورًا عَلَى الْفِسْقِ وَالْكُفْرِ فَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ لَمَا صَحَّ أَنْ يَعْتَرِضَ بِهِ الْعَبْدُ الْمَرْبُوبُ عَلَى الرَّبِّ الْمَعْبُودِ وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لِمَعْصِيَةِ إِبْلِيسَ - وَهُوَ شَرُّ أَفْرَادِ هَذَا النَّوْعِ الْمُسَمَّى بِالْجِنِّ - تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُخْتَارًا فِي عِصْيَانِهِ بَانِيًا إِيَّاهُ عَلَى شُبْهَةٍ احْتَجَّ بِهَا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ خَلَقَ اللهُ نَوْعَهُ فَكَانُوا كَالْبَشَرِ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، كَمَا يُعْلَمُ مِنَ السُّورَةِ الَّتِي سُمِّيَتْ بِاسْمِهِمْ (الْجِنِّ) وَقَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (١٨: ٥٠) الْفِسْقُ الْخُرُوجُ مِنَ الشَّيْءِ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُطِيعُهُ وَيَعْبُدُهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَجُودُهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، وَعُقُوبَتُهُ بِإِخْرَاجِهِ مِنْهُمْ بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ. وَقَدْ عَصَى آدَمُ رَبَّهُ بَعْدَ عِصْيَانِ إِبْلِيسَ، وَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ آدَمَ تَابَ إِلَى رَبِّهِ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ وَاجْتَبَاهُ وَجَعَلَهُ مَوْضِعَ مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَأَنَّ إِبْلِيسَ أَصَرَّ عَلَى عِصْيَانِهِ وَاحْتَجَّ عَلَى رَبِّهِ فَلَعَنَهُ وَأَخْزَاهُ، وَجَعَلَهُ مَوْضِعَ عَدْلِهِ فِي عِقَابِهِ، وَقَصَّ قَصَصَهُمَا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا بِمَا أَظْهَرَ حَقِيقَةَ النَّوْعَيْنِ، وَمَآلَ الْعَمَلَيْنِ، عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَابْتِلَاءً - اخْتِبَارًا - لِلْعَالِمِينَ يَمِيزُ اللهُ بِهِ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُسِيئِينَ، وَيُزِيلُ بَيْنَ الطَّيِّبِينَ وَالْخَبِيثِينَ، إِذْ كَانَ مِنْ سُنَنِهِ فِيهِمَا أَنَّ الْحَيَاةَ جِهَادٌ، يَظْهَرُ بِهِ مَا أُودِعَ فِي النُّفُوسِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ، وَأَنَّ مِنْ حِكَمِ تَفَاوُتِ الْبَشَرِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمُ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، وَالْحَكِيمُ وَالْحَاكِمُ، وَالْمَسُوسُ وَالسَّائِسُ، وَالْقَائِدُ وَالْجُنْدِيُّ، وَالْمَخْدُومُ وَالْخَادِمُ، وَالزَّارِعُ وَالصَّانِعُ، وَالتَّاجِرُ وَالْعَامِلُ. فَلَوْلَا الْعُمَّالُ - مَثَلًا - لَمَا اتَّسَعَتْ مَسَائِلُ الْعُلُومِ بِالْأَعْمَالِ، وَلَمَا أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِمَا كَشَفَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَسْرَارِ الطَّبِيعَةِ وَخَوَاصِّ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عُرِفَتْ نِعَمُ الْخَالِقِ وَسُنَنُهُ وَدَقَائِقُ عِلْمِهِ وَحِكْمَتُهُ فِي الْأَشْيَاءِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الصِّفَاتِ وَمَظَاهِرِ الْأَسْمَاءِ، وَمُوجِبَاتِ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى فَهُوَ حَسَنٌ فِي نَفْسِهِ، مُتْقَنٌ فِي صُنْعِهِ، مُظْهِرٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute