لِنَوْعٍ أَوْ أَنْوَاعٍ مِنْ حِكَمِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمِنْ كَمَالِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَا
شَيْءَ مِنْهُ بِبَاطِلٍ وَلَا بِشَرٍّ مَحْضٍ (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) (١٥: ٨٥) (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (٣٨: ٢٧)
وَإِذَا كَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ تَعَالَى فِيمَا ذَكَرَ مِنْ مَعْصِيَتَيْ أَبَوَيِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ظُهُورُ اسْتِعْدَادِهِمْ وَإِظْهَارُ حُكْمِهِ تَعَالَى فِي الْجَزَاءِ عَلَى الذُّنُوبِ فِي حَالَيِ التَّوْبَةِ مِنْهَا وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، وَالْعِبْرَةُ وَالْمَوْعِظَةُ، وَحُسْنُ الْأُسْوَةِ، وَسُوءُ الْقُدْوَةِ، وَالِابْتِلَاءُ وَالْجِهَادُ وَغَيْرُهُ مِمَّا بَيَّنَّا - وَإِذَا كَانَتْ مَعْصِيَةُ الْأَوَّلِ بِسَبَبِ وَسْوَسَةِ الْآخَرِ - فَلَا خَفَاءَ فِي اسْتِمْرَارِ ذَلِكَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَى فِطْرَةِ نَوْعَيْهِمَا، الَّتِي هِيَ مَظْهَرُ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ فِيهِمَا، فَجِنْسُ الْجِنِّ أَوِ الْجِنَّةِ الْغَيْبِيِّ الرُّوحَانِيِّ نَوْعَانِ أَوْ صِنْفَانِ: صِنْفٌ مَلَكِيٌّ يُلَابِسُ بَعْضُهُ أَرْوَاحَ الْبَشَرِ الْمَيَّالَةِ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ فَتُقَوِّي دَاعِيَتَهُمَا فِيهَا، وَصِنْفٌ شَيْطَانِيٌّ يُلَابِسُ أَرْوَاحَ الْبَشَرِ الْمَيَّالَةِ إِلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ فَتُقَوِّي دَاعِيَتَهُمَا فِيهَا، كَمَا بَيَّنَهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ " ثُمَّ قَرَأَ (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) (٢: ٢٦٨) الْآيَةَ - رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَرُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَمَثَلُ اتِّصَالِ نَوْعَيِ الْجِنَّةِ الرُّوحِيَّةِ بِرُوحِ الْإِنْسَانِ كُلٌّ بِمَا يُنَاسِبُ طَبْعَهُ - كَمَثَلِ اتِّصَالِ نَوْعَيِ الْجِنَّةِ الْمَادِّيَّةِ بِجَسَدِهِ وَتَأْثِيرِهَا فِيهِ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ، وَهِيَ مَا يُسَمِّيهِ الْأَطِبَّاءُ بِالْمَيُكْرُوبَاتِ وَسَمَّاهَا بَعْضُ الْأُدَبَاءِ النَّقَاعِيَّاتِ، فَإِنَّ مِنْهَا جِنَّةَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْجِسْمِ الْقَابِلِ لَهَا بِضَعْفِهِ، وَالْمَيُكْرُوبَاتُ الَّتِي تَقْوَى بِهَا الصِّحَّةُ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.
قَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ: وَالْجِنُّ يُقَالُ عَلَى وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) لِلرُّوحَانِيِّينَ: الْمُسْتَتِرَةُ عَنِ الْحَوَاسِّ كُلِّهَا بِإِزَاءِ الْإِنْسِ، فَعَلَى هَذَا تَدْخُلُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ وَالشَّيَاطِينُ فَكُلُّ مَلَائِكَةٍ جِنٌّ وَلَيْسَ كُلُّ جِنٍّ مَلَائِكَةً، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو صَالِحٍ: الْمَلَائِكَةُ كُلُّهَا جِنٌّ. وَقِيلَ: بَلِ الْجِنُّ بَعْضُ الرُّوحَانِيِّينَ، وَذَلِكَ أَنَّ الرُّوحَانِيِّينَ ثَلَاثَةٌ: أَخْيَارٌ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَأَشْرَارٌ وَهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَأَوْسَاطٌ فِيهِمْ أَخْيَارٌ وَأَشْرَارٌ وَهُمُ الْجِنُّ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ) (٧٢: ١) إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ) (٧٢: ١٤) وَالْجِنَّةُ جَمَاعَةُ الْجِنِّ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَا يُخَالِفُ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ وَحْدَةِ الْجِنْسِ؛
فَإِنَّهُ غَلَبَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُ اسْمَانِ مُمَيَّزَانِ لَهُمَا لِتَضَادِّهِمَا. وَقَدْ فُسِّرَتِ الْجِنَّةَ - بِالْكَسْرِ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (٣٧: ١٥٨) بِالْمَلَائِكَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute