مَغْزَى الْقِصَّةِ وَالْعِبْرَةُ فِيهَا
قَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ اللهَ قَصَّ عَلَيْنَا خَبَرَ نَشْأَتِنَا الْأُولَى، بِمَا يُبَيِّنُ لَنَا سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي فِطْرَتِنَا وَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا مِنْ شُكْرِهِ وَطَاعَتِهِ فِي تَزْكِيَتِهَا وَتَهْذِيبِ غَرَائِزِهَا، وَمُلَخَّصُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهَا مَعَ مَا يُفَسِّرُهَا وَيُوَضِّحُهَا مِنَ السُّوَرِ الْأُخْرَى: أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ لِيَكُونَ خَلِيفَةً لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَهُ مُسْتَعِدًّا لِعِلْمِ كُلِّ شَيْءٍ فِيهَا، وَلِتَسْخِيرِ جَمِيعِ مَا فِيهَا مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَادَّةِ لِمَنَافِعِهِ لِيَكُونَ فِي ذَلِكَ مُظْهِرًا لِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلَى، وَتَعَلُّقِهَا بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ وَمُعَامَلَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى وَأَنَّهُ كَانَ فِي نَشْأَتِهِ الْأَوْلَى فِي جَنَّةٍ مِنَ النَّعِيمِ وَرَاحَةِ الْبَالِ، وَأَنَّهُ لِاسْتِعْدَادِهِ لِلْأُمُورِ الْمُتَضَادَّةِ، الَّتِي يَكُونُ بِهَا مُظْهِرًا لِلصِّفَاتِ الْمُتَقَابِلَةِ، كَالضَّارِّ وَالنَّافِعِ، وَالْمُنْتَقِمِ وَالْغَافِرِ، كَانَتْ نَفْسُهُ مُسْتَعِدَّةً لِلتَّأْثِيرِ بِالْأَرْوَاحِ الْمَلَكِيَّةِ الَّتِي تَجْذِبُهَا
إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَبِالْأَرْوَاحِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تَجْذِبُهَا إِلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، وَأَنَّ عَاقِبَةَ التَّأَثُّرِ الْأَوَّلِ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ بِمَا تَقْبَلُهُ طَبِيعَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَعَاقِبَةُ الثَّانِي شَقَاءُ الدَّارَيْنِ بِقَدْرِ مَا يُوجَدُ مِنْ أَسْبَابِ الشَّقَاءِ فِيهِمَا، وَيَحْتَاجُ الْبَشَرُ فِي ذَلِكَ إِلَى هِدَايَةِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ الْهَادِيَةِ إِلَى اتِّقَاءِ الْأَوَّلِ وَالتَّعَرُّضِ لِلْآخَرِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ طَهَ بِقَوْلِهِ: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هَدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (٢٠: ١٢٣ - ١٢٦) وَنَحْوِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَهَذَا أَثَرُ الدِّينِ فِي الْحِفْظِ مِنْ شَقَاءِ الدُّنْيَا وَهَلَاكِ الْآخِرَةِ، وَكِتَابُ اللهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَا يُصَدِّقُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي حَالِهِمْ، وَمَنْ يُفَسِّرُونَهُ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ بِأَقْوَالِهِمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ جَعَلَهَا تَمْثِيلًا لِبَيَانِ هَذِهِ السُّنَنِ وَالنَّوَامِيسِ فِي فِطْرَةِ الْبَشَرِ وَالشَّيَاطِينِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِآدَمَ نَوْعَ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ، كَمَا تُسَمِّي الْعَرَبُ الْقَبِيلَةَ بِاسْمِ أَصْلِهَا وَجَدِّهَا الْأَشْهَرِ فَنَقُولُ فَعَلَتْ قُرَيْشٌ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَتْ تَمِيمٌ: كَيْتَ وَكَيْتَ، وَتَكُونُ الْجَنَّةُ عِبَارَةً عَنْ نِعْمَةِ الْحَيَاةِ، وَالشَّجَرَةُ عِبَارَةً عَنِ الْغَرِيزَةِ الَّتِي تُثْمِرُ الْمَعْصِيَةَ وَالْمُخَالَفَةَ، كَمَا مَثَّلَ كَلِمَتَيِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ بِالشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ وَالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ أَمْرَ قَدَرٍ وَتَكْوِينٍ، لَا أَمْرَ تَشْرِيعٍ وَتَكْلِيفٍ، وَقَدْ شَرَحَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا التَّأْوِيلَ شَرْحًا بَلِيغًا يُرَاجَعُ هُنَالِكَ، وَالْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَذْهَانِ مَنْ يَعْسُرُ إِقْنَاعُهُمْ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَلَا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَّا بِمِثْلِ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْبَيَانِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute