رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَآهُمْ، وَفِي أَحَادِيثَ أُخْرَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى الشَّيَاطِينَ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ يَرَى أَنَّ رُؤْيَتَهُمْ مِنَ الْخَوَارِقِ الْخَاصَّةِ بِالْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِهِ عَنْ صَاحِبِهِ الرَّبِيعِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَرَى الْجِنَّ رَدَدْنَا شَهَادَتَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا.
وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِرُؤْيَتِهِمْ عَلَى صُورَتِهِمُ الَّتِي خُلِقُوا عَلَيْهَا، وَاخْتَلَفَتْ فِرَقُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَشَكُّلِهِمْ بِالصُّوَرِ، فَالْجُمْهُورُ يُثْبِتُونَهُ وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمْرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَدْ قَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَ الصُّورَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا وَلَكِنْ تَخْيِيلٌ كَتَخْيِيلِ سَحَرَةِ الْإِنْسِ - وَتَقَدَّمَ نَصُّ الرِّوَايَةِ فِي بَحْثِ اسْتِهْوَاءِ الشَّيَاطِينِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَمَا فِيهَا - وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " أَيُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ تَخَيَّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَلَا يَصُدَّنَّ عَنْهُ وَلْيَمْضِ قُدُمًا فَإِنَّهُمْ مِنْكُمْ أَشَدُّ فَرَقًا مِنْكُمْ مِنْهُمْ " إِلَخْ. وَهُوَ صَحِيحٌ فِي كَوْنِ الشَّيَاطِينِ وَسَائِرِ الْجِنِّ الْعَاقِلَةِ تَخَافُ مِنَ الْبَشَرِ الَّذِينَ خَلَقَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَرْقَى مِنْهُمْ، كَجِنِّ الْحَشَرَاتِ الَّذِينَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ مِنْهَا مَا يَطِيرُ وَمِنْهَا حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِيمَا وَرَدَ فِي الْجِنِّ وَمَا قِيلَ فِيهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَمِنَ
الْمَنَارِ وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِهَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ جَهَلَةِ الْعَوَامِّ بِالْبَاطِلِ، بِوِلَايَتِهِمْ لِلشَّيَاطِينِ وَوِلَايَةِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ، وَقَدْ خَوَّفُوا النَّاسَ مِنْهُمْ حَتَّى أَوْقَعُوا الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَوْقَعُوهُمْ فِي ضَلَالَاتٍ كَثِيرَةٍ.
إِنَّ مَفَاسِدَ (الزَّارِ) كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ، وَقَدْ وَصَفْنَاهَا مِنْ قَبْلُ فِي الْمَنَارِ. وَسَبَبُهَا اعْتِقَادُ الْكَثِيرَاتِ مِنَ النِّسَاءِ الْمَرِيضَاتِ بِأَمْرَاضٍ عَادِيَّةٍ - وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ عَصَبِيَّةً - أَنَّ الشَّيَاطِينَ قَدْ دَخَلَتْ فِي أَجْسَادِهِنَّ. وَأَنَّ صَانِعَاتِ الزَّارِ يُخْرِجْنَهُمْ مِنْهَا بِإِرْضَائِهِمْ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِالْقَرَابِينِ وَغَيْرِهَا. وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ عِبَادَةِ الْجِنِّ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَزَالَهَا الْإِسْلَامُ بِإِصْلَاحِهِ، وَلَمَّا جُهِلَ الْإِسْلَامُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ وَقَبَائِلِ الْبَدْوِ عَادَتْ إِلَى أَهْلِهَا. وَقَدْ كَانَ مِنْ حَسَنَاتِ تَأْثِيرِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْمُجَدِّدِ لِلْإِسْلَامِ فِي نَجْدٍ إِبْطَالُ عِبَادَةِ الْجِنِّ وَغَيْرِ الْجِنِّ مِنْهَا، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا إِلَّا أَهْلُ تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَلَكِنَّ عُلَمَاءَ الْأَزْهَرِ هُنَا لَا يُعْنَوْنَ أَقَلَّ عِنَايَةٍ بِمُقَاوَمَةِ هَذِهِ الْبِدَعِ وَالْخُرَافَاتِ وَأَمْثَالِهَا، وَلَا الْمَعَاصِي الْفَاشِيَةِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ.
وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ وَاقِعَةً وَقَفْنَا عَلَيْهَا مِنِ امْرَأَةٍ كَانَتْ تَأْتِينَا بِاللَّبَنِ كُلَّ صَبَاحٍ مِنْ رِيفِ الْجِيزَةِ. وَهِيَ أَنَّ وَلَدَهَا غَرِقَ فِي النِّيلِ فَسَأَلَتْ عَنْهُ بَعْضَ الدَّجَّالِينَ فَأَخْبَرَهَا بِأَنَّ أَحَدَ الْأَسْيَادِ (أَيْ عَفَارِيتِ الْجِنِّ) أَنْقَذَهُ وَوَضَعَهُ عِنْدَهُ، فَهُوَ يَعِيشُ فِي ضِيقٍ وَشَظَفٍ، وَأَنَّهُ هُوَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُوَصِّلَ إِلَيْهِ مَا تَجُودُ بِهِ وَالِدَتُهُ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ تُعْطِيهِ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ وَالدَّجَاجِ وَالْحَمَامِ الْمَقْلِيِّ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ أُجْرَةً لِنَقْلِهِ، وَتَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَصِلُ إِلَى وَلَدِهَا عِنْدَ الْعِفْرِيتِ الَّذِي أَخَذَهُ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ لَهُ، وَرُبَّمَا يُطْلِقُهُ بَعْدُ، وَمَا زَالَ أَهْلُ بَيْتِنَا يَنْصَحْنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute