فِي بَعْضِ جَزَائِرِ الْبِحَارِ وَجِبَالِ إِفْرِيقِيَّةَ، كُلُّهُمْ يَعِيشُونَ عُرَاةَ الْأَجْسَامِ نِسَاءً وَرِجَالًا، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ مَا وَصَلَ إِلَى قَوْمٍ مِنْهُمْ إِلَّا وَعَلَّمَهُمْ لُبْسَ الثِّيَابِ بِإِيجَابِهِ لِلسَّتْرِ وَلِلزِّينَةِ إِيجَابًا شَرْعِيًّا، وَلَمَّا أَسْرَفَ بَعْضُ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ الْأُورُبِّيِّينَ فِي الطَّعْنِ فِي الْإِسْلَامِ لِتَنْفِيرِ أَهْلِهِ مِنْهُ وَتَحْوِيلِهِمْ إِلَى مِلَّتِهِمْ، وَلِتَحْرِيضِ أُورُبَّةَ عَلَيْهِمْ، رَدَّ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الْمُنْصِفِينَ مِنْهُمْ، فَذَكَرَ فِي رَدِّهِ أَنَّ لِانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِي إِفْرِيقِيَّةَ مِنْهُ عَلَى أُورُبَّةَ بِنَشْرِهِ لِلْمَدَنِيَّةِ فِي أَهْلِهَا بِحَمْلِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْعُرْيِ وَإِيجَابِهِ لُبْسَ الثِّيَابِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِرَوَاجِ تِجَارَةِ النَّسِيجِ الْأُورُبِّيَّةِ فِيهِمْ. بَلْ أَقُولُ: إِنَّ بَعْضَ الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ ذَاتِ الْحَضَارَةِ وَالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ كَانَ يَغْلِبُ فِيهَا مَعِيشَةُ الْعُرْيِ، حَتَّى إِذَا مَا اهْتَدَى بَعْضُهُمْ بِالْإِسْلَامِ صَارُوا يَلْبَسُونَ وَيَتَجَمَّلُونَ ثُمَّ صَارُوا يَصْنَعُونَ الثِّيَابَ، وَقَلَّدَهُمْ جِيرَانُهُمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ بَعْضَ التَّقْلِيدِ، وَهَذِهِ بِلَادُ الْهِنْدِ عَلَى ارْتِقَاءِ حَضَارَةِ الْوَثَنِيِّينَ فِيهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا لَا يَزَالُ أُلُوفُ الْأُلُوفِ مِنْ نِسَائِهِمْ وَرِجَالِهِمْ عُرَاةً أَوْ أَنْصَافَ أَوْ أَرْبَاعَ عُرَاةٍ، فَتَرَى بَعْضَ رِجَالِهِمْ فِي مَعَاهِدِ تِجَارَتِهِمْ وَصِنَاعَتِهِمْ بَيْنَ عَارٍ لَا يَسْتُرُ إِلَّا السَّوْءَتَيْنِ - وَيُسَمُّونَهُمَا " سَبِيلَيْنِ " وَهِيَ الْكَلِمَةُ الْعَرَبِيَّةُ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ - أَوْ سَاتِرٍ لِنِصْفِهِ الْأَسْفَلِ فَقَطْ، وَامْرَأَةٍ مَكْشُوفَةِ الْبَطْنِ وَالْفَخِذَيْنِ أَوِ النِّصْفِ الْأَعْلَى مِنَ الْجِسْمِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ. وَقَدِ اعْتَرَفَ بَعْضُ عُلَمَائِهِمُ الْمُنْصِفِينَ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ هُمُ الَّذِينَ عَلَّمُوهُمْ لُبْسَ الثِّيَابِ وَالْأَكْلَ فِي الْأَوَانِي. وَلَا يَزَالُ أَكْثَرُ فُقَرَائِهِمْ يَضَعُونَ طَعَامَهُمْ عَلَى وَرَقِ الشَّجَرِ وَيَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ سَائِرِ الْوَثَنِيِّينَ سَتْرًا وَزِينَةً لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا حُكَّامَهُمْ، وَقَدْ كَانُوا وَلَا يَزَالُونَ مِنْ أَرْقَى مُسْلِمِي الْأَرْضِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَتَأْثِيرًا فِي وَثَنِيِّ بِلَادِهِمْ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فِي بِلَادِ الشَّرْقِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَيْهَا الْجَهْلُ فَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْوَثَنِيَّةِ مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي اللِّبَاسِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ، وَمِنْهُمْ نِسَاءُ مُسْلِمِي (سيام) اللَّاتِي لَا يَرَيْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ عَوْرَةً سِوَى السَّوْءَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فَحَيْثُ يَقْوَى الْإِسْلَامُ يَكُونُ السَّتْرُ وَالزِّينَةُ اللَّائِقَةُ بِكَرَامَةِ الْبَشَرِ وَرُقِيِّهِمْ.
فَمِنْ عَرِفَ مِثْلَ هَذَا عَرِفَ قِيمَةَ هَذَا الْأَصْلِ الْإِصْلَاحِيِّ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَوْلَا أَنْ جَعَلَ هَذَا الدِّينُ الْمَدَنِيُّ الْأَعْلَى أَخْذَ الزِّينَةِ مِنْ شَرْعِ اللهِ - يَعْنِي أَوْجَبَهُ عَلَى عِبَادِهِ - لَمَا نَقَلَ أُمَمًا وَشُعُوبًا كَثِيرَةً مِنَ الْوَحْشِيَّةِ الْفَاحِشَةِ إِلَى الْحَضَارَةِ الرَّاقِيَةِ، وَإِنَّمَا يَجْهَلُ هَذَا الْفَضْلَ لَهُ مَنْ يَجْهَلُ التَّارِيخَ وَإِنْ كَانَ مَنْ أَهِلْهُ، بَلْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُوجَدَ فِي مُتَحَذْلِقَةِ الْمُتَفَرْنِجِينَ مِنْهُمْ مَنْ يَجْلِسُ فِي مَلْهًى أَوْ مَقْهًى أَوْ حَانَةٍ مُتَّكِئًا مُمِيلًا طَرْبُوشَهُ عَلَى رَأْسِهِ
يَقُولُ: مَا مَعْنَى جَعْلِ أَخْذِ زِينَةِ النَّاسِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْبَشَرِ لَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى وَحْيٍ إِلَهِيٍّ وَلَا شَرْعٍ دِينِيٍّ؟ وَقَدْ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) وَهَذَا الْأَمْرُ الْمُقَيَّدُ بِمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ النَّهْيِ إِرْشَادٌ عَالٍ أَيْضًا فِيهِ صَلَاحٌ لِلْبَشَرِ فِي دِينِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَلَا عَصْرٍ مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute