للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْأَعْصَارِ، وَكُلُّ مَا بَلَغُوهُ مِنْ سِعَةِ الْعِلْمِ فِي الطِّبِّ وَغَيْرِهِ لَمْ يُغْنِهِمْ عَنْهُ، بَلْ هُوَ يُغْنِي الْمُهْتَدِي بِهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ عَنْ مُعْظَمِ وَصَايَا الطِّبِّ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ - وَالْمَعْنَى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ الْمَسَاجِدِ وَأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ، وَكُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاشْرَبُوا الْمَاءَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَشْرِبَةِ النَّافِعَةِ الْمُسْتَلِذَّاتِ (وَلَا تُسْرِفُوا) فِيهَا وَلَا تَعْتَدُوا بَلِ الْزَمُوا الِاعْتِدَالَ (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أَيْ إِنَّ رَبَّكُمُ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ لِمَنْفَعَتِكُمْ، لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ فِي أَمْرِهِمْ، بَلْ يُعَاقِبُهُمْ عَلَى الْإِسْرَافِ بِقَدْرِ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالْمَضَارِّ، فَالنَّهْيُ رَاجِعٌ إِلَى الثَّلَاثَةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، بَلْ حَذْفُ الْمَعْمُولِ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، أَيْ لَا تُسْرِفُوا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلَا فِي غَيْرِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ تَعْلِيلُ النَّهْيِ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ جِنْسَ الْمُسْرِفِينَ - أَيْ لِأَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ سُنَنَهُ فِي فِطْرَتِهِمْ، وَشَرِيعَتَهُ فِي هِدَايَتِهِمْ، بِجِنَايَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي ضَرَرِ أَبْدَانِهِمْ، وَضَيَاعِ أَمْوَالِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَضَارِّ الْإِسْرَافِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَنْزِلِيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ. أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ مَخِيلَةٍ وَلَا سَرَفٍ فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ " وَفِي مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ وَاشْرَبْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ إِذَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ. وَالْمَخِيلَةُ (بِفَتْحِ الْمِيمِ بِوَزْنِ سَفِينَةٍ) الْخُيَلَاءُ وَالْإِعْجَابُ وَالْكِبْرُ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ " وَلَا تُسْرِفُوا " قَالَ: فِي الثِّيَابِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: مِنَ السَّرَفِ أَنْ يَكْتَسِيَ الْإِنْسَانُ وَيَأْكُلَ وَيَشْرَبَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) قَالَ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَفِي أُخْرَى قَالَ: أَحَلَّ اللهُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مَا لَمْ يَكُنْ سَرَفًا أَوْ مَخِيلَةً. . وَلَمْ يَذْكُرِ اللِّبَاسَ وَالْمَخِيلَةَ تَظْهَرُ فِيهِ وَلَا تَظْهَرُ فِي نَفْسِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَإِنَّمَا قَدْ تَظْهَرُ فِي أَوَانِيهَا كَمَا سَيَأْتِي.

وَالْأَصْلُ فِي الْإِسْرَافِ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَالْحُدُودُ مِنْهَا طَبِيعِيٌّ كَالْجُوعِ وَالشِّبَعِ وَالظَّمَأِ وَالرَّيِّ، فَلَوْ لَمْ يَأْكُلِ الْإِنْسَانُ إِلَّا إِذَا أَحَسَّ بِالْجُوعِ وَمَتَى

شَعَرَ بِالشِّبَعِ كَفَّ وَإِنْ كَانَ يَسْتَلِذُّ الِاسْتِزَادَةَ، وَلَوْ لَمْ يَشْرَبْ إِلَّا إِذَا شَعَرَ بِالظَّمَأِ وَاكْتَفَى بِمَا يُزِيلُهُ رَيًّا فَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ لِاسْتِلْذَاذِ بَرْدِ الشَّرَابِ أَوْ حَلَاوَتِهِ، لَمْ يَكُنْ مُسْرِفًا فِي أَكْلِهِ وَشَرَابِهِ، وَكَانَ طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ نَافِعًا لَهُ - وَمِنْهَا اقْتِصَادِيٌّ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ نَفَقَةُ الثَّلَاثَةِ عَلَى نِسْبَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ دَخْلِ الْإِنْسَانِ لَا تَسْتَغْرِقُ كَسْبَهُ، فَمَنْ نَفَيْنَا عَنْهُ الْإِسْرَافَ الطَّبِيعِيَّ فِي أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ، قَدْ يَكُونُ مُسْرِفًا فِي مَالِهِ إِذَا كَانَ نَوْعُ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَلِبَاسِهِ مِمَّا لَا يَفِي دَخْلَهُ بِمِثْلِهِ - وَمِنْهَا عَقْلِيٌّ أَوْ عِلْمِيٌّ، وَمِنْهَا عُرْفِيٌّ وَشَرْعِيٌّ، وَمِنْ حُدُودِ الشَّرْعِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ أَنَّهُ حَرَّمَ مِنَ الطَّعَامِ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَمِنَ الشَّرَابِ الْخَمْرَ وَهِيَ كُلُّ مُسْكِرٍ، كَمَا حَرَّمَ كُلَّ ضَارٍّ مِنْهُمَا كَالسُّمُومِ، وَمِنَ اللِّبَاسِ الْحَرِيرَ الْمُصْمَتَ أَيِ الْخَالِصَ وَكَذَا الْغَالِبَ - عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>