للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِهِ قَالَ اللهُ: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) وَ (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ فِي الْعِيدَيْنِ بُرْدَيْ حِبَرَةٍ.

وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنَ الْإِحْيَاءِ أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَزِيدَ النَّوْفَلِيَّ كَتَبَ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى الله عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ: مِنْ يَحْيَى بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَلْبَسُ الدُّقَاقَ، وَتَأْكُلُ الرُّقَاقَ وَتَجْلِسُ عَلَى الْوَطِئِ، وَتَجْعَلُ عَلَى بَابِكَ حَاجِبًا، وَقَدْ جَلَسْتَ مَجْلِسَ الْعِلْمِ وَقَدْ ضُرِبَتْ إِلَيْكَ الْمَطِيُّ، وَارْتَحَلَ إِلَيْكَ النَّاسُ وَاتَّخَذُوكَ إِمَامًا وَرَضُوا بِقَوْلِكَ، فَاتَّقِ اللهَ تَعَالَى يَا مَالِكُ، وَعَلَيْكَ بِالتَّوَاضُعِ، كَتَبْتُ إِلَيْكَ بِالنَّصِيحَةِ مِنِّي كِتَابًا مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ غَيْرُ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالسَّلَامُ.

فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ إِلَى يَحْيَى بْنِ يَزِيدَ، سَلَامُ اللهِ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ وَصَلَ إِلَيَّ كِتَابُكَ فَوَقَعَ مِنِّي مَوْقِعَ النَّصِيحَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالْأَدَبِ، أَمْتَعَكَ اللهُ بِالتَّقْوَى وَجَزَاكَ بِالنَّصِيحَةِ خَيْرًا. وَأَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى التَّوْفِيقَ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ لِي أَنِّي آكُلُ الرُّقَاقَ وَأَلْبَسُ الدُّقَاقَ، وَأَحْتَجِبُ وَأَجْلِسُ عَلَى الْوَطِئِ، فَنَحْنُ نَفْعَلُ ذَلِكَ وَنَسْتَغْفِرُ اللهَ تَعَالَى. فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ وَلَا تَدَعُنَا مِنْ كِتَابِكَ فَلَسْنَا نَدَعُكَ مِنْ كِتَابِنَا وَالسَّلَامُ اهـ.

إِذَا صَحَّتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ فَمُرَادُ الْإِمَامِ مَالِكٍ: أَنَّ تَرْكَ مَجْمُوعِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِمَنْ صَارَ يَقْتَدِي بِهِ مِثْلُهُ، أَوْ قَالَهُ تَوَاضُعًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْهُ. وَلَمْ يَكُنِ النَّوْفَلِيُّ مِنْ طَبَقَةِ مَالِكٍ فِي عِلْمٍ وَلَا عَمَلٍ، بَلْ ضَعَّفَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ فِي الْحَدِيثِ. وَقَدْ كَانَ

قَشَفُ بَعْضِ السَّلَفِ عَنْ قِلَّةِ، وَتَقَشَّفَ بَعْضُهُمْ لِأَجْلِ الْقُدْوَةِ. وَإِنَّمَا الزُّهْدُ فِي الْقَلْبِ، فَلَا يُنَافِيهِ الِاعْتِدَالُ فِي الزِّينَةِ وَطَيِّبَاتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلَا كَثْرَةِ الْمَالِ إِذَا أُنْفِقَ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ وَتَرْبِيَةِ الْعِيَالِ. وَقَدْ جَهِلَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الصُّوفِيَّةِ وَبَيَّنَهُ أَحَدُ أَرْكَانِ التَّحْقِيقِ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ كَالسَّيِّدِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلِيِّ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ مُرِيدِيهِ شَكَوْا إِلَيْهِ إِقْبَالَ الدُّنْيَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ: أَخْرِجُوهَا مِنْ قُلُوبِكُمْ إِلَى أَيْدِيكُمْ فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّكُمْ.

فَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الزِّينَةَ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ هِيَ حَقُّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّهَا لَهُمْ بِالذَّاتِ وَالِاسْتِحْقَاقِ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ أَعْلَمَ مِنَ الْكَافِرِينَ بِالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهَا. وَأَنْ يَكُونُوا مِنَ الشَّاكِرِينَ

<<  <  ج: ص:  >  >>