عَلَيْهَا، ذَلِكَ الشُّكْرُ الَّذِي يَحْفَظُهَا لَهُمْ وَيَكُونُ سَبَبًا لِلْمَزِيدِ فِيهَا بِحَسَبِ وَعْدِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ وَمِنْهُ تُفْهَمُ حِكْمَةُ تَذْيِيلِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أَيْ مِنْ شَأْنِهِمُ الْعِلْمُ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَحِكَمِهَا وَلَوْ بَعْدَ خِطَابِهِمْ بِهَا، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ لِحُكْمِ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ الَّذِي ضَلَّ فِيهِ أَفْرَادٌ وَأُمَمٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْبَشَرِ إِفْرَاطًا وَتَفْرِيطًا، لَا يَعْقِلُهُ إِلَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ سُنَنَ الِاجْتِمَاعِ وَطَبَائِعَ الْبَشَرِ وَمَصَالِحَهُمْ وَطُرُقَ الْحَضَارَةِ الشَّرِيفَةِ فِيهِمْ، وَقَدْ فَصَّلَهَا تَعَالَى لَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُوَافِقِ هَدْيُهَا لِفِطْرَةِ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ تَارِيخِ الْبَشَرِ فِي بَدَاوَتِهِمْ وَحَضَارَتِهِمْ وَإِفْرَاطِهِمْ وَتَفْرِيطِهِمْ فِيهِمَا، قَبْلَ أَنْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ كِتَابَهُ الْحَكِيمَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي سَعَادَتِهِمْ، فَكَانَ هَذَا التَّفْصِيلُ مِنَ الْآيَاتِ الْعِلْمِيَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ خُلَاصَةُ عُلُومٍ كَثِيرَةٍ فَاصِلَةٍ بَيْنَ النَّافِعِ وَالضَّارِّ، مَا كَانَ لِمِثْلِهِ أَنْ يَعْلَمَهَا بِذَكَائِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ وَحْيُ اللهِ لَهُ. وَقَدْ قَصَّرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُحَقِّقِينَ قَدْ ذَكَرُوا مَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى تَأْيِيدِهِمْ لِوُضُوحِهِ فِي نَفْسِهِ. فَقَدْ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَعْلَمُ مِنْ جَمِيعِ الْكَافِرِينَ بِكُلِّ الْعُلُومِ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مِنْهُمْ أَعْلَمُ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ بِذَلِكَ.
نَعَمْ هَكَذَا كَانَ، فَلَوْلَا الْقُرْآنُ لَمَا خَرَجَتِ الْعَرَبُ مِنْ ظُلُمَاتِ جَاهِلِيَّتِهَا وَبَدَاوَتِهَا وَوَثَنِيَّتِهَا إِلَى ذَلِكَ النُّورِ، الَّذِي صَلُحَتْ بِهِ وَأَصْلَحَتْ أُمَمًا كَثِيرَةً بِالدِّينِ وَالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالْآدَابِ بِمَا أَحْيَتْ مِنْ عُلُومِ الْأَوَائِلِ وَفُنُونِهَا، وَأَصْلَحَتْ مِنْ فَاسِدِهَا، فَصَدَقَ عَلَيْهِمْ تَعْرِيفُ الدِّينِ الْمَشْهُورِ بِأَنَّهُ: وَضْعٌ إِلَهِيٌّ سَائِقٌ لِذَوِي الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ
بِاخْتِيَارِهِمْ إِلَى مَا فِيهِ نَجَاحُهُمْ فِي الْحَالِ، وَفَلَاحُهُمْ فِي الْمَآلِ. أَوْ إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ. وَلَقَدْ كَانَ مِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَغْفُلَ الْكَثِيرُونَ عَنْ سَبَبِ هَذِهِ الْحَضَارَةِ أَوْ يَجْهَلُوا أَنَّهُ الْقُرْآنُ. حَتَّى كَانَ الْجَهْلُ لِسَبَبِهَا سَبَبًا لِإِضَاعَتِهِ وَإِضَاعَتِهَا، وَأَمْسَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَجْهَلِ الشُّعُوبِ وَأَفْقَرِهِمْ وَأَضْعَفِهِمْ، وَأَقَلِّهِمْ خِدْمَةً لِدِينِهِمْ - فَغَايَةُ دِينِهِمْ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ زِينَةُ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتُهَا وَسِيَادَتُهَا وَمُلْكُهَا، وَأَنْ يَكُونُوا فِيهَا شَاكِرِينَ لِلَّهِ عَلَيْهَا، قَائِمِينَ بِمَا يُرْضِيهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ وَالْبِرِّ وَكُلِّ مَا تَقْتَضِيهِ خِلَافَتُهُ فِي الْأَرْضِ وَبِذَلِكَ يَكُونُونَ أَهْلًا لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ أَحَدُ حُكَمَاءِ دِينِهِمْ، ثُمَّ انْتَهَى هَذَا الْجَهْلُ بِالْكَثِيرِينَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ أَنْ صَارُوا يَظُنُّونَ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ سَبَبُ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَجَهْلِهِمْ وَذَهَابِ مُلْكِهِمْ! وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ بُطْلَانَ هَذَا الْجَهْلِ الَّذِي قَلَبَ الْحَقِيقَةَ قَلْبًا وَحُجَّتُنَا كِتَابُ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَارِيخُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَكِنَّ الْقَارِئِينَ قَلِيلُونَ، وَالَّذِينَ يَفْهَمُونَ مِنْهُمْ أَقَلُّ وَالَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ بِمَا يَفْهَمُونَ أَنْدَرُ، وَلِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute