للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَحْدَثَتْ فِيهَا اشْتِعَالًا فَكَانَتْ ضِيَاءً - أَيْ نُورًا ذَا حَرَارَةٍ، وَهَذِهِ الْكُرَةُ الْأُولَى مِنْ عَالَمِنَا هِيَ الَّتِي نُسَمِّيهَا الشَّمْسَ.

وَيَقُولُونَ أَيْضًا: إِنَّ الْكَوَاكِبَ الدَّرَارِيَّ التَّابِعَةَ لِهَذِهِ الشَّمْسِ فِيمَا نُشَاهِدُ مِنْ نِظَامِ عَالَمِنَا هَذَا قَدِ انْفَتَقَتْ مِنْ رَتْقِهَا، وَانْفَصَلَتْ مِنْ جِرْمِهَا، وَصَارَتْ تَدُورُ عَلَى مَحَاوِرِهَا مِثْلِهَا. وَمِنْهَا أَرْضُنَا هَذِهِ، فَقَدْ كَانَتْ مُشْتَعِلَةً مِثْلَهَا. ثُمَّ انْتَقَلَتْ مِنْ طَوْرِ الْغَازَاتِ الْمُشْتَعِلَةِ إِلَى طَوْرِ الْمَائِيَّةِ فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ بِنِظَامٍ مُقَدَّرٍ بِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْعُنْصُرَيْنِ اللَّذَيْنِ يَتَكَوَّنُ مِنْهُمَا بُخَارُ الْمَاءِ فَكَانَا يَرْتَفِعَانِ مِنْهَا فِي الْجَوِّ فَيَبْرُدَانِ فَيُكَوِّنَانِ بُخَارًا فَمَاءً يَنْجَذِبُ إِلَيْهَا ثُمَّ يَتَبَخَّرُ مِنْهَا حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهَا طَوْرُ الْمَائِيَّةِ. ثُمَّ تَكَوَّنَتِ الْيَابِسَةُ فِي هَذَا الْمَاءِ بِتَجْمِيعِ مَوَادِّهَا طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ، وَتَوَلَّدَتْ فِيهَا الْمَعَادِنُ وَالْأَحْيَاءُ الْحَيَوَانِيَّةُ وَالنَّبَاتِيَّةُ بِسَبَبِ حَرَكَةِ أَجْزَاءِ الْمَادَّةِ وَتَجَمُّعِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بِنِسَبٍ وَمَقَادِيرَ مَخْصُوصَةٍ وَقَدْ ظَهَرَ بِالْبَحْثِ وَالْحَفْرِ أَنَّ بَعْضَ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ خَالِيَةٌ مِنْ آثَارِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ جَمِيعًا فَعُلِمَ أَنَّ تَكَوُّنَهَا كَانَ قَبْلَ وُجُودِهِمَا فِيهَا.

فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَمَا فَصَّلُوهَا بِهِ مِمَّا رَأَوْهُ أَقْرَبَ النَّظَرِيَّاتِ إِلَى سُنَنِ الْكَوْنِ وَصِفَةِ عَنَاصِرِهِ الْبَسِيطَةِ وَحَرَكَتِهَا، وَتَكُونُ الْمَعَادِنُ مِنْهَا، وَالْمَادَّةُ الزُّلَالِيَّةُ ذَاتُ الْقُوَى الَّتِي بِهَا كَانَتْ أَصْلَ الْعَوَالِمِ الْحَيَّةِ كَالتَّغَذِّي وَالِانْقِسَامِ وَالتَّوَلُّدِ، وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا (بُرُتُوبِلَاسْمَا) وَصِفَةِ تَكَوُّنِ الْخَلَايَا الَّتِي تَرَكَّبَتْ مِنْهَا الْأَجْسَامُ الْعُضْوِيَّةُ - كُلُّ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لِخَلْقِ الْعَوَالِمِ أَطْوَارًا بِسُنَنٍ ثَابِتَةٍ وَتَقْدِيرٍ مُنَظَّمٍ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ

شَيْءٌ جُزَافًا، وَقَدْ أَرْشَدَ الْكِتَابُ الْحَكِيمُ إِلَى هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْعَامَّةِ الثَّابِتَةِ فِي نَفْسِهَا، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كُلُّ مَا قَالُوهُ مِنْ فُرُوعِهَا وَمَسَائِلِهَا - بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (٥٤: ٤٩) وَقَوْلِهِ: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (٢٥: ٢) وَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ رَسُولِهِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُخَاطِبًا لِقَوْمِهِ: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا) (٧١: ١٣ - ١٧) فَمِنْ دَلَائِلِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ يُبَيِّنُ الْحَقَائِقَ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا فِي زَمَنِ تَنْزِيلِهِ بِعِبَارَةٍ لَا يَتَحَيَّرُونَ فِي فَهْمِهَا وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا مُجْمَلَةٍ، وَإِنْ كَانَ فَهْمُ مَا وَرَاءَهَا مِنَ التَّفْصِيلِ الَّذِي يَعْلَمُهُ وَلَا يَعْلَمُونَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَرَقِّي الْبَشَرِ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْخَاصَّةِ بِذَلِكَ.

وَقَدْ سَبَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ إِلَى كَثِيرٍ مِمَّا يَظَنُّ الْآنَ أَنَّ عُلَمَاءَ الْإِفْرِنْجِ قَدِ انْفَرَدُوا بِهِ مِنْ مَسَائِلِ نِظَامِ الْخَلْقِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ: الْأَشْبَهُ أَنَّ هَذِهِ الْمَعْمُورَةَ كَانَتْ فِي سَالِفِ الزَّمَانِ مَغْمُورَةً فِي الْبِحَارِ فَحَصَلَ فِيهَا طِينٌ لَزِجٌ فَتَحَجَّرَ بَعْدَ الِانْكِشَافِ، وَحَصَلَ الشُّهُوقُ بِحَفْرِ السُّيُولِ وَالرِّيَاحِ وَلِذَلِكَ كَثُرَتْ فِيهَا الْجِبَالُ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الظَّنَّ أَنَّا نَجِدُ

<<  <  ج: ص:  >  >>