عِنْدَنَا. وَإِذَا كَانَ مُمْكِنًا غَيْرَ مُحَالٍ أَنْ يَكُونَ مِمَّا وَهَبَ الْخَالِقُ لِلْمَخْلُوقِ، أَفَيَكُونُ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَفْعَلَهُ الْخَالِقُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَ لِلْأَرْوَاحِ فِيهِ عَمَلًا؟ .
لَيْسَ لِلْكُفَّارِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى أَصْلِ الْبَعْثِ، وَكُلُّ مَا كَانَ يَسْتَبْعِدُهُ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ قَدْ قَرَّبَهُ تَرَقِّي الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ إِلَى الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ كُبَرَاءِ الْغَرْبِ: لَيْسَ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ مُحَالٌ. وَلَكِنْ لِلْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ شُبْهَةٌ عَلَى حَشْرِ الْأَجْسَادِ تُرَدُّ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُحْشَرُ بِجَسَدِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ عِنْدَ الْمَوْتِ لِكَيْ يَقَعَ الْجَزَاءُ بَعْدَهُ عَلَى الْبَدَنِ الَّذِي اقْتَرَفَ الْأَعْمَالَ.
وَتَقْرِيرُ هَذَا الْإِيرَادِ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْسَادَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْعَنَاصِرِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْهَا مَادَّةُ الْكَوْنِ كُلِّهِ، وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ يَعْرِضُ لَهَا التَّحْلِيلُ وَالتَّرْكِيبُ فَتَدَخُلُ الطَّائِفَةُ مِنْهَا فِي عِدَّةِ أَبْدَانٍ عَلَى التَّعَاقُبِ، فَمِنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ مَا تَأْكُلُهُ الْحِيتَانُ أَوِ الْوُحُوشُ وَمِنْهَا مَا يُحْرَقُ فَيَذْهَبُ بَعْضُ أَجْزَائِهِ فِي الْهَوَاءِ فَيَتَّصِلُ كُلُّ بُخَارِيٍّ - أَوْ
غَازِيٍّ - مِنْهَا بِجِنْسِهِ كَبُخَارِ الْمَاءِ وَعُنْصُرَيْهِ وَالْكَرْبُونِ، وَيَنْحَلُّ مَا يُدْفَنُ فِي الْأَرْضِ فِيهَا ثُمَّ يَتَغَذَّى بِكُلٍّ مِنْهُمَا النَّبَاتُ الَّذِي يَأْكُلُ بَعْضَهُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ فَيَكُونُ جُزْءًا مِنْ أَجْسَادِهَا، وَيَأْكُلُ النَّاسُ مِنْ لُحُومِ الْحِيتَانِ وَالْأَنْعَامِ الَّتِي تَغَذَّتْ مِنْ أَجْسَادِ النَّاسِ بِالذَّاتِ أَوْ بِالْوَاسِطَةِ، فَلَا يَخْلُصُ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ جَسَدٌ خَاصٌّ بِهِ، بَلْ ثَبَتَ أَنَّ الْأَجْسَادَ الْحَيَّةَ تَنْحَلُّ وَتَنْدَثِرُ بِالتَّدْرِيجِ، وَكُلَّمَا انْحَلَّ بَعْضُهَا بِالتَّبَخُّرِ وَبِمَوْتِ بَعْضِ الدَّقَائِقِ الْحَيَّةِ يَحِلُّ مَحَلَّهُ غَيْرُهُ مِنَ الْغِذَاءِ بِنِسْبَةِ الدَّمِ الْمُتَحَوِّلِ مِنْ مُنْتَظِمَةٍ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، فَلَا يَمُرُّ بِضْعُ سِنِينَ عَلَى جَسَدٍ إِلَّا وَيَتِمُّ انْدِثَارُهُ وَتَجَدُّدُهُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ وَحَيَوَانٍ يُحْشَرُ بِجَسَدِهِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا؟
وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا بِأَنَّ لِلْجَسَدِ أَجْزَاءً أَصْلِيَّةً وَأَجْزَاءً فَضْلِيَّةً، وَالَّذِي يُعَادُ بِعَيْنِهِ هُوَ الْأَصْلِيُّ دُونَ الْفَضْلَةِ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْأَصْلِيَّ عِبَارَةً عَنْ ذَرَّاتٍ صَغِيرَةٍ كَعَجَبِ الذَّنَبِ الَّذِي وَرَدَ أَنَّهُ كَحَبَّةِ خَرْدَلٍ، بَلْ جُوِّزَ أَنْ تَكُونَ هِيَ الَّتِي وَرَدَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْدَعَهَا فِي صُلْبِ آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ بِصُورَةِ الذَّرِّ، كَمَا رُوِيَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) (١٧٢) الْآيَةَ - وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ مَعْنَاهَا وَمَا وَرَدَ فِيهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ - وَجَوَّزَ شَيْخُنَا الشَّيْخُ حُسَيْنُ الْجِسْرُ فِي الرِّسَالَةِ الْحُمَيْدِيَّةِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الذَّرُّ مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ لِتَنَاهِي صِغَرِهِ كَالْأَحْيَاءِ الْمِجْهَرِيَّةِ أَيِ الَّتِي لَا تُرَى إِلَّا بِالْمِنْظَارِ الْمُسَمَّى بِالْمِجْهَرِ (الميكروسكوب) .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْتِزَامَ الْقَوْمِ بِوُجُوبِ حَشْرِ الْأَجْسَادِ الَّتِي كَانَتْ لِكُلِّ حَيٍّ بِأَعْيَانِهَا لِأَجْلِ وُقُوعِ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا غَيْرُ لَازِمٍ لِتَحْقِيقِ الْعَدْلِ، فَجَمِيعُ قُضَاةِ الْعَالَمِ الْمَدَنِيِّ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَبْدَانَ الْبَشَرِ تَتَجَدَّدُ فِي سِنِينَ قَلِيلَةٍ وَلَا يُوجَدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute