قَرِيبًا هَبَاءً مُنْبَثًّا وَهَذَا قَطْعِيٌّ، وَهُوَ يُعَارِضُ الْمَرْفُوعَ أَيْضًا، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَانَ ذَلِكَ مَطْعَنًا فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ نَفْسِهِ، فَأَخَذَ بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَإِجْمَالِهِ، وَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ كَوْنَ عَجَبِ الذَّنَبِ لَا يَبْلَى بِطُولِ بَقَائِهِ لَا أَنَّهُ لَا يَفْنَى مُطْلَقًا، ذَكَرَهُ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ مِنَ الْفَتْحِ. وَفَوَّضَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ وَسِرَّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَخَالَفَ الْإِمَامُ الْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ بِفَنَائِهِ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ:
عَجَبُ الذَّنَبِ كَالرُّوحِ لَكِنْ صَحَّحَا الْمُزَنِيُّ لِلْبِلَى وَرَجَّحَا
وَإِنَّمَا يُقَالُ لِأَهْلِ الْعِلْمِ بِالنَّبَاتِ وَبِالْحَيَاةِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ بِأَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ كُرَةً نَارِيَّةً مُلْتَهِبَةً. وَأَنَّ الْأَحْيَاءَ الْأُولَى وُجِدَتْ فِيهَا بِالتَّوَلُّدِ الذَّاتِيِّ الَّذِي انْقَطَعَ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَسَلْسُلِ الْأَحْيَاءِ؛ لِأَنَّ طَبِيعَةَ الْأَرْضِ لَمْ تَبْقَ مُسْتَعِدَّةً لَهُ كَمَا كَانَتْ وَهِيَ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالتَّكْوِينِ. وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ بِأَنَّ الْأَرْضَ تَفْنَى بِتَفَرُّقِ مَادَّتِهَا، ثُمَّ يُعِيدُهَا اللهُ كَمَا بَدَأَهَا. قَالَ تَعَالَى: (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا) (٥٦: ٤ - ٦) فَهَذِهِ الرَّجَّةُ الَّتِي سَمَّاهَا فِي سُوَرٍ أُخْرَى بِالْقَارِعَةِ وَالصَّاخَّةِ. وَالْمَعْقُولُ أَنَّ كَوْكَبًا يَقْرَعُهَا بِاصْطِدَامِهِ بِهَا فَتُفَتَّتُ جِبَالُهَا وَتَكُونُ كَالْهَبَاءِ الْمُتَفَرِّقِ فِي الْجَوِّ وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ بِالسَّدِيمِ. وَقَالَ تَعَالَى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (٢١: ١٠٤) (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٢٩)
وَالْأَشْبَهُ أَنَّ تَشْبِيهَ الْإِعَادَةِ بِالْبَدْءِ إِنَّمَا هُوَ بِالْإِجْمَالُ دُونَ التَّفْصِيلِ، فَكَمَا خَلَقَ اللهُ جَسَدَ الْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ خَلْقًا ذَاتِيًّا مُبْتَدَأً ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ - يَخْلُقُ أَجْسَادَ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ خَلْقًا ذَاتِيًّا مُعَادًا ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهَا أَرْوَاحَهَا الَّتِي كَانَتْ بِهَا أَنَاسِيَّ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، لَا أَنَّهُ يَجْعَلُهَا مُتَسَلْسِلَةً بِالتَّوَالُدِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى كَالنَّشْأَةِ الْأُولَى، إِذْ كَانَتِ الْأَجْسَادُ كَاللِّبَاسِ لِلْأَرْوَاحِ أَوِ السَّكَنِ لَهَا، وَإِذَا كَانَ النَّاسُ قَدْ بَلَغُوا مِنْ عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ أَنْ يُحَلِّلُوا بَعْضَ الْمَوَادِّ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ عَنَاصِرَ كَثِيرَةٍ ثُمَّ يَرْكَبُوهَا، أَفَيَعْجِزُ خَالِقُ الْعَالَمِ كُلِّهِ أَوْ يُسْتَبْعَدُ عَلَى قُدْرَتِهِ أَنْ يُعِيدَ أَجْسَادَ أُلُوفِ الْأُلُوفِ مَرَّةً وَاحِدَةً؟ وَأَيُّ فَرْقٍ عِنْدَهُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؟ ! .
عَلَى أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَ الرُّوحِيِّينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ وَمَا قَبْلَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى الْأَرْوَاحَ الْمُجَرَّدَةَ قُدْرَةً عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَادَّةِ الْكَوْنِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّرْكِيبِ، وَأَنَّهَا بِذَلِكَ تُرَكِّبُ لِنَفْسِهَا مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ جِسْمًا لَطِيفًا أَوْ كَثِيفًا تَحِلُّ فِيهِ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاؤُنَا بِالتَّشَكُّلِ فِي تَفْسِيرِ مَجِيءِ الْمَلَكِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً بِشَكْلِ أَعْرَابِيٍّ وَأَحْيَانًا فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَتَمَثُّلِهِ لِلسَّيِّدَةِ مَرْيَمَ بَشَرًا سَوِيًّا، وَإِذَا كَانَ الْمَادِّيُّونَ لَا يُصَدِّقُونَ الرُّوحَانِيِّينَ فِي هَذَا، فَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَقُولُوا إِنَّهُ مُحَالٌ فِي نَفْسِهِ. وَإِنَّمَا قُصَارَى إِنْكَارِهِمْ أَنْ قَالُوا إِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute