وَيُقَالُ رَجُلٌ نَكَدٌ وَنَكِدٌ (أَيْ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا) وَنَاقَةٌ نَكْدَاءُ. طَفِيفَةُ الدَّرِّ صَعْبَةُ الْحَلْبِ - وَذَكَرَ الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: (وَالَّذِي خَبُثَ) حَذَفَ مَوْصُوفَهُ، أَيْ وَالْبَلَدُ الَّذِي خَبُثَ، وَهُوَ دُونَ الْخَبِيثِ فِي الْخُبْثِ، فَإِنَّ صِيغَةَ فَعِيلٍ مِنَ الصِّيَغِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الصِّفَاتِ الْكَامِلَةِ الثَّابِتَةِ، وَالنَّكِدُ قَدْ يَكُونُ فِيمَا دُونَ هَذَا مِنَ الْخُبْثِ. وَمِنْ دِقَّةِ الْبَلَاغَةِ فِي هَذَيْنِ التَّعْبِيرَيْنِ دِلَاتُهُمَا عَلَى التَّرْغِيبِ فِي طَلَبِ الرُّسُوخِ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَتَجَنُّبِ أَدْنَى الْخُبْثِ وَالنَّقْصِ وَبَيْنَ ذَلِكَ دَرَجَاتٌ رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، " مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادَبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ طَائِفَةً أُخْرَى مِنْهَا إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ " وَقَدْ فَسَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ وَهُوَ الَّذِي نَفَعَ وَانْتَفَعَ كَالْهَادِي وَالْمُهْتَدِي، وَالثَّالِثَ الَّذِي لَمْ يَنْفَعْ وَلَمْ يَنْتَفِعْ كَالْجَاحِدِ، وَسَكَتَ عَنِ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي انْتَفَعَ غَيْرُهُ بِعِلْمِهِ مِنْ دُونِهِ كَالْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ غَيْرَهُ وَلَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ الْمُشَبَّهِ بِالْأَرْضِ الَّتِي تُمْسِكُ الْمَاءَ وَلَا تَنْبُتُ وَحَالُهُ مَعْلُومَةٌ بَلْ لَهُ أَحْوَالٌ، فَمِنْهُ الْمُنَافِقُونَ وَمِنْهُ الْمُفَرِّطُونَ وَيَدُلُّ الْمَثَلَانِ عَلَى أَنَّ الْوِرَاثَةَ سَبَبٌ فِطْرِيٌّ لِهَذَا التَّفَاوُتِ فِي الِاسْتِعْدَادِ، وَلِهَذَا يَحْسُنُ أَنْ تُفَضَّلَ الْمَرْأَةُ التَّقِيَّةُ الْكَرِيمَةُ الْأَخْلَاقِ الطَّاهِرَةُ الْأَعْرَاقِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْجَمِيلَةِ إِذَا كَانَتْ مِنْ بَيْتٍ دَنِيءٍ، وَكَذَا عَلَى الْمَرْأَةِ
الْمُتَعَلِّمَةِ غَيْرِ الْكَرِيمَةِ الْخُلُقِ وَلَا الطَّيِّبَةِ الْعِرْقِ، وَقَدْ شَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ بِالْمَعَادِنِ، وَشَبَّهَ الْمَرْأَةَ الْحَسْنَاءَ فِي الْمَنْبَتِ السُّوءِ بِخَضْرَاءِ الدِّمْنِ أَيْ حَشِيشِ الْمَزْبَلَةِ.
وَمَنِ اخْتَبَرَ النَّاسَ رَأَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ يَخْرُجُ مِنَ الطَّيِّبِينَ عَفْوًا بِلَا تَكَلُّفٍ، وَأَنَّ الْخَبِيثِينَ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمُ الْخَيْرُ وَالْمَعْرُوفُ وَلَا الْحَقُّ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ إِلَّا نَكِدًا، بَعْدَ إِلْحَافٍ أَوْ إِيذَاءٍ فِي الطَّلَبِ أَوْ إِدْلَاءٍ إِلَى الْحُكَّامِ وَمُرَاوَغَةٍ فِي الْخِصَامِ.
(كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) أَيْ كَذَلِكَ شَأْنُنَا فِي هَذَا التَّصْرِيفِ الْبَدِيعِ الْمِثَالِ الْمُوَضَّحِ بِالْأَمْثَالِ، نُصَرِّفُ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى عِلْمِنَا وَحِكْمَتِنَا وَرَحْمَتِنَا بِالْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى أَنْوَاعٍ جَلِيَّةٍ تُبَيِّنُ مُرَادَنَا لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نِعَمَنَا، بِاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا تَتِمُّ بِهِ حِكْمَتُنَا، فَيَسْتَحِقُّونَ مَزِيدًا مِنْهَا، وَتَثْوِيبَنَا عَلَيْهَا. عَبَّرَ بِالشُّكْرِ فِي الْآيَةِ الَّتِي مَوْضُوعُهَا الِاهْتِدَاءُ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْإِرْشَادِ وَبِالتَّذْكِيرِ فِي الْآيَةِ الَّتِي مَوْضُوعُهَا الِاعْتِبَارُ وَالِاسْتِدْلَالُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute