للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اسْتِطْرَادٌ فِي بَيَانِ بَعْضِ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْخَلْقِ بِالْهَوَاءِ وَالرِّيَاحِ الْهَوَاءُ جِسْمٌ لَطِيفٌ مِمَّا يُعَبِّرُ عَنْهُ عُلَمَاءُ الْكِيمْيَاءِ بِالْغَازِ، لَا لَوْنَ لَهُ وَلَا رَائِحَةَ مُرَكَّبٌ تَرْكِيبًا مَزْجِيًا مِنْ عُنْصُرَيْنِ غَازِيَّيْنِ أَصْلِيَّيْنِ يُسَمُّونَ أَحَدَهُمَا (الْأُكْسُجِينَ) وَخَاصَّتُهُ تَوْلِيدُ الِاحْتِرَاقِ وَالِاشْتِعَالِ وَإِحْدَاثُ الصَّدَإِ فِي الْمَعَادِنِ وَهُوَ سَبَبُ حَيَاةِ الْأَحْيَاءِ كُلِّهَا مِنْ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ وَإِنْسَانٍ، وَثَانِيهِمَا (الْآزُوتُّ - أَوِ النِّيتْرُوجِينُ) وَهُوَ أَخَفُّ عَنَاصِرِ الْمَادَّةِ وَزْنًا وَسَيَأْتِي ذِكْرُ بَعْضِ خَوَاصِّهِ وَمِنْ عَنَاصِرَ أُخْرَى (كَالْأَيُدْرُوجِينِ) وَهُوَ الْمُوَلِّدُ لِلْمَاءِ (وَحَمْضِ الْكَرْبُونِ) وَهُوَ أَصْلُ مَادَّةِ الْفَحْمِ وَغَازِهِ السَّامِّ (وَالْهِلْيُومِ وَالنِّيُونِ وَالْكِرِيتُونِ) وَهِيَ عَنَاصِرُ اكْتُشِفَتْ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ، وَتَكْثُرُ فِيهِ أَنْوَاعُ الْغَازَاتِ وَالْأَبْخِرَةِ الَّتِي تَنْفَصِلُ مِنْ مَوَادِّ الْأَرْضِ وَتَخْتَلِفُ كَثْرَةُ هَذِهِ الْمَوَادِّ وَقِلَّتُهَا بِاخْتِلَافِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِهَا إِلَى مَسَافَةِ ٣٠٠ كِيلُو مِتْرٍ بِالتَّقْرِيبِ.

يُسَمُّونَ الْهَوَاءَ عُنْصُرَ الْحَيَاةِ، فَلَوْلَاهُ لَمْ تُوجَدِ الْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ وَلَا النَّبَاتِيَّةُ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ فَالْإِنْسَانُ وَسَائِرُ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ تَسْتَنْشِقُ الْهَوَاءَ فَيُطَهِّرُ مَا فِيهِ مِنَ الْأُكْسُجِينِ دِمَاءَهَا مِنَ الْكَرْبُونِ السَّامِّ فَيَخْرُجُ بِالتَّنَفُّسِ إِلَى الْجَوِّ فَيَتَغَذَّى بِهِ النَّبَاتُ. وَلَوِ احْتَبَسَ مَا يَتَّلِدُ فِي دَمِ الْحَيَوَانِ مِنَ السُّمُومِ الْآلِيَّةِ فِي صَدْرِهِ لَأَمَاتَهُ مَسْمُومًا كَمَا يَمُوتُ الْغَرِيقُ بِعَدَمِ دُخُولِ الْهَوَاءِ فِي رِئَتَيْهِ. فَمَثَلُهُ فِي ذَلِكَ كَمَثَلِ مِصْبَاحِ

زَيْتِ الْبِتْرُولِ الَّذِي يَمُدُّ أُكْسُجِينُ الْهَوَاءِ اشْتِعَالَهُ، أَلَمْ تَرَ أَنَّكَ إِذَا وَضَعْتَ عَلَى فُوَّهَةِ زُجَاجَةِ الْمِصْبَاحِ غِطَاءً مُحْكَمًا يَنْطَفِئُ نُورُهُ سَرِيعًا؟ وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْحَيَوَانَاتُ الْمَائِيَّةُ كَالسَّمَكِ فَإِنَّ الْهَوَاءَ الَّذِي يُخَالِطُ الْمَاءَ كَافٍ لَهَا.

وَالنَّبَاتُ يَمْتَصُّ الْكَرْبُونَ السَّامَّ مِنَ الْهَوَاءِ فَيَتَغَذَّى بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَيَدَعُ الْأُكْسُجِينَ لِلْحَيَوَانِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا يَأْخُذُ مِنْهُ حَظَّهُ، وَيُفِيدُ فِي الْحَيَاةِ صِنْوَهُ، كَمَا قُلْنَا فِي الْمَقْصُورَةِ:

وَالْبَاسِقَاتُ رَفَعَتْ أَكُفَّهَا تَسْتَنْزِلُ الْغَيْثَ وَتَطْلُبُ النَّدَى تَمْتَلِجُ الْكَرْبُونَ مِنْ ضَرْعِ الْهَوَى تُؤْثِرُنَا بِالْأُكْسُجِينِ الْمُنْتَقَى

وَكَذَلِكَ الْهَوَاءُ الَّذِي يَتَخَلَّلُ الْأَرْضَ يُسَاعِدُ جُذُورَ النَّبَاتِ عَلَى امْتِصَاصِهَا الْغِذَاءَ مِنَ التُّرَابِ ثُمَّ إِنَّ السُّمُومَ الَّتِي تَنْحَلُّ فِي الْبَدَنِ يَخْرُجُ قِسْمٌ عَظِيمٌ مِنْهَا مِنْ مَسَامِّهِ بُخَارًا أَوْ عَرَقًا فَيَمْتَصُّهَا الْهَوَاءُ وَيَدْفَعُهَا إِلَى الْجَوِّ الْوَاسِعِ، وَلَوِ انْسَدَّتْ مَسَامُّ الْبَدَنِ لَمَا كَانَ الْهَوَاءُ الَّذِي يَدْخُلُ الرِّئَتَيْنِ كَافِيًا لِوِقَايَةِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ مِنْ مِيتَةِ التَّسَمُّمِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>