فِيهِ، وَالنَّبَاتُ يَأْخُذُهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَسَائِرُ غِذَاءِ الْحَيَوَانَاتِ مِنَ الْمَوَادِّ النَّبَاتِيَّةِ، وَمُعْظَمُهَا مِنَ الْكَرْبُونِ، وَهُوَ يَأْخُذُهَا مِنَ الْأَرْضِ وَمِنِ امْتِصَاصِهِ لِغَازِ الْحَامِضِ الْكَرْبُونِيِّ مِنَ الْهَوَاءِ.
فَهَذَا الْغَازُ عَلَى شِدَّةِ ضَرَرِهِ وَقُوَّةِ سُمِّهِ فِي الْهَوَاءِ لِمَنْ يَسْتَنْشِقُهُ لَابُدَّ لَهُ مِنْهُ فِي رُكْنِ الْمَعِيشَةِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ النَّبَاتُ.
إِذَا كَثُرَ هَذَا الْحَامِضُ فِي الْهَوَاءِ فَصَارَ وَاحِدًا فِي الْمِائَةِ كَانَ ضَارًّا فَإِذَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى صَارَ ١٠ فِي الْمِائَةِ صَارَ شَدِيدَ الْخَطَرِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ. وَهُوَ يَكْثُرُ فِي الْمَبَانِي الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا النَّاسُ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْفَاسِهِمْ، وَالَّتِي تَكْثُرُ
فِيهَا السُّرُجُ وَالْمَصَابِيحُ الزَّيْتِيَّةُ وَالْغَازِيَةُ وَكَذَا الشُّمُوعُ فَإِنَّهَا تُوَلِّدُهُ بِاحْتِرَاقِهَا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهَا نَوَافِذُ مُتَقَابِلَةٌ يَدْخُلُ الْهَوَاءُ مِنْ بَعْضِهَا وَيَخْرُجُ مِنَ الْآخَرِ فَإِنَّ هَوَاءَهَا يَفْسُدُ بِهِ وَيَتَسَمَّمُ دَمُ مَنْ فِيهَا. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ هَذَا الشَّأْنِ: إِنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إِلَى أَكْثَرِ مِنْ ١٦ مِتْرًا مُكَعَّبًا مِنَ الْهَوَاءِ فِي السَّاعَةِ، وَهُوَ يَنْفُثُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ ٢٢ لِتْرًا مِنْ هَذَا الْغَازِ السَّامِّ (الْكَرْبُونِ) فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَّقِيَ جَمِيعُ النَّاسِ الِاجْتِمَاعَ وَنَوْمَ الْكَثِيرِينَ فِي الْبُيُوتِ الَّتِي لَا يَتَخَلَّلُهَا الْهَوَاءُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِيهَا مَصَابِيحُ مُوقَدَةٌ، وَأَنْ يَحْذَرُوا مِنْ وَقُودِ الْفَحْمِ فِيهَا فِي أَيَّامِ الْبَرْدِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ مُطَّرِدٌ لِلِاخْتِنَاقِ كَمَا ثَبَتَ عِلْمًا وَتَجْرِبَةً، إِلَّا إِذَا وُضِعَ فِي الْبَيْتِ بَعْدَ أَنْ تَمَّ اشْتِعَالُهُ وَذَهَبَ غَازُهُ فِي الْهَوَاءِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ رَائِحَةٌ وَلَا شَيْءٌ مِنَ السَّوَادِ.
عَلِمْنَا مِنْ هَذَا أَنَّ الْخَالِقَ الْحَكِيمَ قَدْ جَعَلَ الْهَوَاءَ مُرَكَّبًا مِنَ الْمَوَادِّ الضَّرُورِيَّةِ لِحَيَاةِ الْأَحْيَاءِ كُلِّهَا، وَجَعَلَ النِّسْبَةَ بَيْنَ أَجْزَائِهِ فِي كُلٍّ مِنَ الْحَجْمِ وَالثِّقْلِ مُنَاسِبَةً لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلُّ جِنْسٍ وَنَوْعٍ مِنَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، فَإِذَا نَقُصَ أَحَدُهَا بِتَصَرُّفِ هَذِهِ الْأَحْيَاءِ فِيهِ بِالتَّغَذِّي وَالِاسْتِنْشَاقِ وَالنَّفْثِ بِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُوقِعَ اخْتِلَالًا وَتَفَاوُتًا فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ كَانَ لَهُ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى مَا يُعِيدُ إِلَيْهِ اعْتِدَالَهُ وَيَحْفَظُهُ لَهُ، كَتَأْثِيرِ كُلٍّ مِنْ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ فِي وَرَقِ النَّبَاتِ الْأَخْضَرِ، وَمِنْ تَمَوُّجِ الْبِحَارِ فِي تَوْلِيدِ الْأُكْسُجِينِ، وَحَمْلِ الرِّيَاحِ لَهُ إِلَى الصَّحَارِي الْبَعِيدَةِ عَنِ الْمَاءِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْأَشْجَارِ.
تَسْتَفِيدُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ مِنَ الْهَوَاءِ بِفِطْرَتِهَا فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ كَسْبِيٍّ وَلَا إِلَى عَمَلٍ صِنَاعِيٍّ تَهْتَدِي بِهِمَا إِلَى الْتِزَامِ مَنَافِعِهِ وَاتِّقَاءِ مَضَارِّهِ إِلَّا الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ - وَهُوَ سَيِّدُ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ بِمَا خُلِقَ مُسْتَعِدًّا لَهُ مِنِ اكْتِسَابِ الْعُلُومِ وَإِتْقَانِ الْأَعْمَالِ إِلَى غَيْرِ حَدٍّ يُعْرَفُ - وَهُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَى الْعِلْمِ الْوَاسِعِ وَالْعَمَلِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْعِلْمِ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَكُلَّمَا اتَّسَعَ عِلْمُهُ وَدَقَّتْ صِنَاعَتُهُ صَارَ أَشَدَّ حَاجَةً إِلَى الْعِلْمِ وَالصِّنَاعَةِ، فَأَهْلُ الْبَدَاوَةِ أَقَلُّ حَاجَةً إِلَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْحَضَارَةِ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى حَيَاةِ الْفِطْرَةِ، وَأَقَلُّ جِنَايَةً عَلَيْهَا مِنْ أَهْلِ الْحَضَارَةِ فِي أَغْذِيَتِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ.
يَبْنِي أَهْلُ الْحَضَارَةِ الدُّورَ فَيَجْعَلُونَ فِي كُلِّ دَارٍ بُيُوتًا كَثِيرَةً وَمَرَافِقَ مُخْتَلِفَةً، فَإِذَا لَمْ يُرَاعُوا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute