الْبَيَانِيِّ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمُرَاجَعَاتِ الْقَوْلِيَّةِ وَإِنْ تَكَرَّرَتْ كَمَا تَرَاهُ فِي السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ، فَكَأَنَّ الْمُسْتَمِعَ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ مَثَلًا يَسْأَلُ وَقَدْ عَلِمَ مِنْ أَمْرِ قِصَّةِ نُوحٍ مَا عَلِمَ: فَمَاذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ هُودٍ مَعَ قَوْمِهِ، وَمَاذَا قَالَ لَهُمْ فِي دَعْوَتِهِ؟ أَكَانَ أَمْرُهُ مَعَهُمْ كَأَمْرِ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ أَمِ اخْتَلَفَ الْحَالُ؟
(أَفَلَا تَتَّقُونَ) أَيْ أَفَلَا تَتَّقُونَ مَا يُسْخِطُهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي لِتَنْجُوا مِنْ عِقَابِهِ؟ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ. وَاسْتِبْعَادِ عَدَمِ الْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ عِقَابِهِ تَعَالَى لِقَوْمِ نُوحٍ مَا كَانَ وَفِي سُورَةِ هُودٍ: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (١١: ٥١) وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَ هَذَا وَذَاكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي وَقْتٍ بَعْدَ وَقْتٍ، وَمِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْقِصَصِ الْمُكَرَّرَةِ أَنْ يَذْكُرَ فِي كُلٍّ مِنْهَا مَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْأُخْرَى لِتَنْوِيعِ الْفَوَائِدِ وَدَفْعِ الْمَلَلِ عَنِ الْقَارِئِ، وَقَدِ اقْتَبَسَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي أَحَادِيثِ جَامِعِهِ الصَّحِيحِ الْمُكَرَّرَةِ فَتَحَرَّى فِي كُلِّ بَابٍ أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَائِدَةٍ.
(قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ) وَصَفَ الْمَلَأَ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالْكُفْرِ دُونَ مَلَإِ قَوْمِ نُوحٍ، قِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ آمَنَ (كَمَرْثَدِ بْنِ سَعْدٍ) وَكَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَالسَّفَاهَةُ خِفَّةُ الْحِلْمِ وَسَخَافَةُ الْعَقْلِ وَتَنْكِيرُهَا لِبَيَانِ نَوْعِهَا أَوِ الْمُبَالَغَةِ بِعِظَمِهَا، أَيْ قَالُوا: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ غَرِيبَةٍ أَوْ تَامَّةٍ رَاسِخَةٍ تُحِيطُ بِكَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِأَنَّكَ لَمْ تَثْبُتْ عَلَى دِينِ آبَائِكَ وَأَجْدَادِكَ، بَلْ قُمْتَ تَدْعُو إِلَى دِينٍ جَدِيدٍ تَحْتَقِرُ فِيهِ الْأَوْلِيَاءَ الصَّالِحِينَ مِنْ قَوْمِكَ الَّذِينَ اتَّخَذَتِ الْأُمَّةُ لَهُمُ الصُّوَرَ وَالتَّمَاثِيلَ لِتَخْلِيدِ ذِكْرِهِمْ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِشَفَاعَتِهِمْ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ عَادًا كَانُوا أَصْحَابَ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا، اتَّخَذُوا أَصْنَامًا عَلَى مِثَالِ أَصْنَامِ قَوْمِ نُوحٍ وَسَيَأْتِي نَصُّ الرِّوَايَةِ فِي ذَلِكَ، فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمْ هُودًا وَكَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهَا الْخُلُودُ إِلَخْ. وَمِثْلَ قَوْلِهِمْ هَذَا قَالَ وَيَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُشْرِكُونَ لِدُعَاةِ الْإِصْلَاحِ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ: إِنَّكُمْ سُفَهَاءُ لَا ثَبَاتَ لَكُمْ، وَإِنَّكُمْ حَقَّرْتُمْ أَوْلِيَاءَكُمْ وَآبَاءَكُمْ.
(وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) أَيْ فِي دَعْوَةِ الرِّسَالَةِ عَنِ اللهِ تَعَالَى أَكَّدُوا ظَنَّهُمُ الْآثِمَ، كَمَا أَكَّدُوا مَا قَبْلَهُ مِنْ تَسْفِيهِهِمُ الْبَاطِلَ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ تَكْذِيبَ كُلِّ رَسُولٍ؛ إِذْ عَبَّرُوا عَنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الدَّعْوَى بِالْكَاذِبِينَ وَجَعَلُوهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَالظَّنُّ هُنَا عَلَى مَعْنَاهُ، فَلَوْ قَالُوا إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لَكَانُوا كَاذِبِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِيمَا يَحْكُمُونَ مِنِ اعْتِقَادِهِمْ. وَأَمَّا حُكْمُهُمْ عَلَيْهِ بِالسَّفَاهَةِ فَكَانَ عَلَى اعْتِقَادٍ بَاطِلٍ
مِنْهُمْ؛ وَلِذَلِكَ عَبَّرُوا عَنْهُ بِالرُّؤْيَةِ الَّتِي بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ.
(قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَيْ لَيْسَ بِي أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ ضُرُوبِ السَّفَاهَةِ وَشَوَائِبِهَا، وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ وَهِيَ أَمَانَةٌ عَنْهُ، فَلَا يَخْتَارُ لَهَا إِلَّا أَهْلَ الْحَصَافَةِ بِرُجْحَانِ الْعَقْلِ وَسِعَةِ الْحِلْمِ وَكَمَالِ الصِّدْقِ وَإِلَّا لَفَاتَ مَا يَقْصِدُ بِهَا مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَمْ تَقُمْ بِهَا لِلَّهِ الْحُجَّةُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute