للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مُعَاشَرَتِهِمْ وَلَا مَسَاكِنِهِمْ مَعَ هَذِهِ الْمُبَايَنَةِ، فَإِنَّ النَّاقِصَ يَسْتَثْقِلُ مُعَاشَرَةَ الْكَامِلِ الَّذِي يَحْتَقِرُهُ وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ أَنَّهُمْ أَنْذَرُوهُ هَذَا الْإِخْرَاجَ، إِذَا هُوَ لَمْ يَنْتَهِ عَنِ الْإِنْكَارِ.

(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرٌ لِمَنْ آمَنَ مَعَهُ فَيَعُودُ إِلَيْهِمْ ضَمِيرُ (أَخْرِجُوهُمْ) .

(قُلْنَا) : إِنَّ هَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِالْقَرِينَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي آيَةِ النَّمْلِ فَفِيهَا: (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ) (٢٧: ٥٦) بَدَلُ أَخْرِجُوهُمْ وَالْبَاقِي سَوَاءٌ، إِلَّا الْعَطْفَ فِي أَوَّلِهَا بِالْفَاءِ، كَآيَةِ الْعَنْكَبُوتِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْجَوَابُ، وَهِيَ: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٢٩: ٢٩) وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَمَتَى كَانَ الْكَلَامُ مَفْهُومًا كَانَ صَحِيحًا فَصِيحًا وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَى جَامِدِي النُّحَاةِ وَإِعْرَابُهُ كَمَا سَبَقَ نَظِيرُهُ.

(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ فِي حِكَايَةِ الْجَوَابَيْنِ تَعَارُضًا فِي الْمَعْنَى مَحْكِيًّا بِصِيغَةِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِيهِمَا، فَكَيْفَ وَقَعَ هَذَا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَمَا الَّذِي يَدْفَعُ هَذَا التَّعَارُضَ؟ (قُلْنَا) : إِنَّهُ لَا تَعَارُضَ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ؛ لِحَمْلِهِمَا عَلَى الْوُقُوعِ فِي وَقْتَيْنِ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَاهُمْ كَثِيرًا، فَكَانَ يَسْمَعُ فِي كُلِّ وَقْتٍ كَلَامًا مِمَّنْ حَضَرَ مِنْهُمْ، وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّ قِصَصَ الْقُرْآنِ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا سَرْدُ حَوَادِثِ التَّارِيخِ بَلِ الْعِبْرَةُ وَالْمَوْعِظَةُ، فَيُذْكَرُ فِي كُلِّ سُورَةٍ مِنَ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْمَعَانِي وَالْمَوَاعِظِ مَا لَا يُذْكَرُ فِي الْأُخْرَى، وَمَجْمُوعُهَا هُوَ كُلُّ مَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَعِظَ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ. فَمِنَ الْمَعْهُودِ أَنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - وَكَذَا غَيْرُهُمْ مِنَ الْوُعَّاظِ الَّذِينَ يَنْهَوْنَ الضَّالِّينَ وَالْمُجْرِمِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ - يُكَرِّرُونَ لَهُمُ الْوَعْظَ بِمَعَانٍ مُتَقَارِبَةٍ،

وَيَسْمَعُونَ مِنْهُمْ أَجْوِبَةً مُتَشَابِهَةً، وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ مَا لَا يَقُولُ غَيْرُهُ فَيُعْجِبُهُمْ وَيُقِرُّونَهُ عَلَيْهِ فَيُسْنَدُ إِلَيْهِمْ كُلِّهِمْ. كَمَا يُسْنَدُ إِلَيْهِمْ فِعْلُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ إِذَا رَضُوهُ وَأَقَرُّوهُ عَلَيْهِ وَلَوْ بَعْدَ فِعْلِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي إِسْنَادِ عَقْرِ النَّاقَةِ إِلَى قَوْمِ صَالِحٍ وَإِنَّمَا عَقَرَهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِ رَسُولِهِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ مَا لَمْ يَحْكِهُ فِي سُورَتَيِ الْأَعْرَافِ وَالنَّمْلِ، فَزَادَ عَلَى إِتْيَانِهِمُ الرِّجَالَ قَطْعَ السَّبِيلِ، وَإِتْيَانَهُمُ الْمُنْكَرَ فِي النَّادِي الْحَافِلِ، وَالْمَجْلِسِ الْحَاشِدِ. فَكَأَنَّهُمْ ضَاقُوا بِهِ حِينَئِذٍ ذَرْعًا وَاسْتَعْجَلُوهُ الْعَذَابَ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ إِذَا أَصَرُّوا عَلَى عِصْيَانِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ أَمْرِهِمْ بِإِخْرَاجِهِ. وَأَنَّ التَّوَعُّدَ بِالْإِخْرَاجِ كَانَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ.

(فَإِنْ قِيلَ) : هَذَا مَقْبُولٌ لِأَنَّ مِثْلَهُ مَعْهُودٌ مَعْرُوفٌ، وَلَكِنْ مَا وَجْهُ بَدْءِ جُمْلَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>