الْجَوَابِ بِالْوَاوِ تَارَةً وَبِالْفَاءِ أُخْرَى، وَمَا وَجْهُ اخْتِصَاصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَوْضِعِهِ؟
(قُلْنَا) : إِنَّ عَطْفَ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا بِكُلٍّ مِنَ " الْوَاوِ " وَ " الْفَاءِ " جَائِزٌ، إِلَّا أَنَّ فِي " الْفَاءِ " زِيَادَةَ مَعْنًى؛ لِأَنَّهَا تُفِيدُ رَبْطَ مَا بَعْدَهَا بِمَا قَبْلَهَا بِمَا يَقْتَضِي وُجُوبَ تُلُوِّهِ لَهُ، فَهُوَ جِمَاعُ مَعَانِيهَا الْعَامَّةِ مِنَ التَّعْقِيبِ وَالسَّبَبِيَّةِ وَجَزَاءِ الشَّرْطِ، وَالْأَصْلُ الْعَامُّ فِي هَذَا الِارْتِبَاطِ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الْفَاءِ أَثَرًا لِفِعْلٍ وَقَعَ قَبْلَهُ، وَكُلٌّ مِنْ آيَتَيِ النَّمْلِ وَالْعَنْكَبُوتِ جَاءَ بَعْدَ إِسْنَادِ فِعْلٍ إِلَى الْقَوْمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْأُولَى: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (٢٧: ٥٥) وَفِي الثَّانِيَةِ: (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) (٢٩: ٢٩) فَلِذَلِكَ عُطِفَ الْجَوَابُ عَلَى مَا بَعْدَهُمَا بِالْفَاءِ. وَأَمَّا آيَةُ الْأَعْرَافِ فَقَدْ جَاءَتْ بَعْدَ جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) وَإِسْنَادُ صِفَةِ الْإِسْرَافِ إِلَيْهِمْ فِيهَا مَقْصُودٌ بِالذَّاتِ دُونَ مَا قَبْلَهُ مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ الَّذِي كَانَ بِتَكْرَارِهِ عِلَّةً لِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَكَانَ الْإِصْرَارُ عَلَيْهِ مَعْلُولًا لَهَا. وَثَمَّ وَجْهٌ آخَرُ لِعَطْفِ هَذِهِ بِالْوَاوِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا اسْتَظْهَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِ الْأَمْرِ بِإِخْرَاجِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
مِنْ بَعْضِهِمْ قَدْ كَانَ بَعْدَ الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ بِهِ مِنْ آخَرِينَ مِنْهُمْ، فَكَانَ بِهَذَا فِي مَعْنَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ - فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَمَا كَانَ جَوَابُ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ، وَأَنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ. وَرَدَّدَهُ آخَرُونَ: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ. وَهَذِهِ الدِّقَّةُ فِي اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِي الْمَوَاقِعِ الْمُتَّحِدَةِ أَوِ الْمُتَشَابِهَةِ لِأَمْثَالِ هَذِهِ النُّكَتِ لَا تَجِدُهَا مُطَّرِدَةً إِلَّا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَهِيَ مِنْ إِعْجَازِهِ اللَّفْظِيِّ وَلِذَلِكَ يَغْفُلُ عَنْهَا أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. لَا تَجِدُهَا مُطَّرِدَةً إِلَّا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَهِيَ مِنْ إِعْجَازِهِ اللَّفْظِيِّ وَلِذَلِكَ يَغْفُلُ عَنْهَا أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ.
بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَاجَعْتُ (رُوحَ الْمَعَانِي) فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: وَإِنَّمَا جِيءَ بِالْوَاوِ فِي (وَمَا كَانَ) إِلَخْ. دُونَ الْفَاءِ كَمَا فِي النَّمْلِ وَالْعَنْكَبُوتِ لِوُقُوعِ الِاسْمِ قَبْلَ الْفِعْلِ هُنَا وَالْفِعْلِ هُنَاكَ، وَالتَّعْقِيبُ بِالْفِعْلِ بَعْدَ الْفِعْلِ حَسَنٌ دُونَ التَّعْقِيبِ بِهِ بَعْدَ الِاسْمِ، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ اهـ وَلَعَمْرِي إِنَّهُ جَدِيرٌ بِالتَّأَمُّلِ لِلَفْظِهِ الَّذِي أَوْرَدَهُ بِهِ أَوَّلًا وَلِمَعْنَاهُ بَعْدَ فَهْمِهِ ثَانِيًا، فَإِنْ ظَهَرَ لِلْمُتَأَمِّلِ أَنَّ وَجْهَ الْحُسْنِ فِي التَّعْقِيبِ مَا بَسَطْنَاهُ انْتَهَى تَعَبُ التَّأَمُّلِ بِالْقَبُولِ إِنْ شَاءَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ عَبَثًا، وَإِلَّا كَانَ حَظُّهُ مِنْهُ كَدَّ الذِّهْنِ وَإِضَاعَةَ الْوَقْتِ مَعًا، وَمَا كَتَبْتُ هَذِهِ النُّكْتَةَ، إِلَّا لِأَقُولَ فِيهَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَأَنَّى بِذَكَاءِ أَصْحَابِ الْإِيجَازِ الْمُخِلِّ مِنَ الْمُتَعَجِّبِينَ، وَإِنْ قَلَّ مَنْ يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِمْ مِنَ الصَّابِرِينَ، وَسَيَقِلُّ عَدَدُهُمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا قَلَّ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي عَرِفَتْ قِيمَةَ الْعُمْرِ، فَضَنَّتْ بِهِ أَنْ يَضِيعَ جُلُّهُ فِي حَلِّ رُمُوزِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو.
(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ أَهْلِ الرَّذَائِلِ أَنْ يُنْكِرُوهَا أَوْ يُسَمُّوهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا وَيَأْلَمُونَ مِمَّنْ يُعَيِّرُهُمْ بِهَا لِمَا جَبَلَ اللهُ عَلَيْهِ الْبَشَرَ مِنْ حُبِّ الْكَمَالِ وَكُرْهِ النَّقْصِ، فَكَيْفَ عَلَّلَ قَوْمُ لُوطٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute