افْتَرَى عَلَيْهِ وَضَلَّ عَنْ صِرَاطِهِ عَلَى عِلْمٍ؟ وَإِنَّ كُفْرَ الْجُحُودِ ـ وَهُوَ إِنْكَارُ الْحَقِّ وَغَمْطُهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ ـ هُوَ شَرُّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ، وَالِافْتِرَاءُ عَلَى اللهِ تَعَالَى فِيهِ أَفْظَعُ ضُرُوبِ الِافْتِرَاءِ الَّتِي لَا يُقْبَلُ فِيهَا أَدْنَى عُذْرٍ.
وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ النَّتِيجَةَ أَدَلُّ مِنَ الْعَوْدِ عَلَى إِثْبَاتِ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِلَّةِ قَوْمِهِمْ حَقِيقَةً، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ يَجْعَلُونَهُ تَغْلِيبًا لِاسْتِثْنَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنَقُولُ بِنَاءً عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ أَنَّ عَدَّهُمْ إِيَّاهُ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ يَعْبُدُ مَا يَعْبُدُونَ، وَيَفْعَلُ مِنَ التَّطْفِيفِ وَبَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ: إِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَشْمَلَهُ إِنْجَاءُ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ مِنْهَا، بِمَعْنَى إِنْجَائِهِ مِنَ الِانْتِمَاءِ إِلَى مِلَّةٍ مَا كَانَ يُؤْمِنُ بِعَقِيدَتِهَا، وَلَا يَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِهَا، وَلَا كَانَ يَهْتَدِي بِعَقْلِهِ وَرَأْيِهِ إِلَى مِلَّةٍ خَيْرٍ مِنْهَا، فَكَانَ مَوْقِفُهُ مَوْقِفَ الْحَيْرَةِ فِي شَأْنِهَا، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي خِطَابِ النَّبِيِّ الْخَاتَمِ الْأَعْظَمِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٩٣: ٧) وَتَفْسِيرُهُ بِقَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا (٤٢: ٥٢) الْآيَةَ.
وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا هَذَا رَفْضٌ آخَرُ لِلْعَوْدِ فِي مِلَّتِهِمْ مُؤَكَّدٌ أَبْلَغَ التَّأْكِيدِ مَعْطُوفٌ عَلَى مُنَاسِبِهِ، وَالتَّعْبِيرُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشَّأْنِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لَهُ بِالدَّلِيلِ، وَهُوَ كَوْنُهُ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ وَلَا جَارٍ عَلَى سُنَنِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ مِنْ شَأْنِنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا حَالَ مَشِيئَةِ اللهِ رَبِّنَا الْمُتَصَرِّفِ فِي جَمِيعِ شُئُونِنَا، فَهُوَ وَحْدَهُ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ لَا أَنْتُمْ وَلَا نَحْنُ أَيْضًا؛ لِأَنَّنَا مُوقِنُونَ بِأَنَّ مِلَّتَكُمْ
بَاطِلَةٌ ضَارَّةٌ مُفْسِدَةٌ، وَمِلَّتَنَا هِيَ الْحَقُّ الَّتِي بِهَا صَلَاحُ النَّاسِ وَعُمْرَانُ الْأَرْضِ، وَالْمُوقِنُ لَا يَسْتَطِيعُ إِزَالَةَ يَقِينِهِ وَلَا تَغْيِيرَهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِيَدِ مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ سُبْحَانَهُ، وَرَهْنِ مَشِيئَتِهِ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا فَعِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِأَسْبَابِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ مَا لَيْسَ عِنْدَكُمْ، وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَمَشِيئَتُهُ تَجْرِي بِحَسَبِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمِمَّا كَانَ يَعْلَمُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حِكْمَتِهِ تَعَالَى وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ أَنَّهُ يُقِيمُ حُجَّتَهُ بِأَهْلِ الْحَقِّ عَلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ، وَيَنْصُرُهُمْ عَلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَا دَامُوا نَاصِرِينَ لَهُ، وَقَائِمِينَ بِمَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا تَطْمَعُوا إِذًا أَنْ يَشَاءَ رَبُّنَا الْحَفِيُّ بِنَا عَوْدَتَنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا بِفَضْلِهِ مِنْهَا، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَيْكُمْ بِنَا، وَمَا كَانَ تَعَالَى لِيُدْحِضَ حُجَّتَهُ وَيُبْطِلَ سُنَّتَهُ.
فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُوئِسٌ لِلْمَلَأِ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ مِنْ عَوْدَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ مَنْ آمَنَ مَعَهُ فِي مِلَّتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ نَفَى وُقُوعَ الْعَوْدِ مِنْهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ نَفْيًا مُؤَكَّدًا بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute