للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلَا مِمَّا يَجِيءُ مِنْ قِبَلِهِمْ فِي حَالٍ مَا مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَيْهِمْ كَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالرَّجَاءِ فِي الْمَنَافِعِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْمَضَارِّ، وَمِنْهَا الْإِخْرَاجُ مِنَ الدِّيَارِ، وَاسْتَثْنَى حَالًا وَاحِدَةً وَهِيَ مَشِيئَةُ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، فَدَلَّ عَلَى عُمُومِ النَّفْيِ فِيمَا عَدَا الْمُسْتَثْنَى، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ لِتَوْكِيدِهِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةٍ لِمُتَعَلِّقِ الْمَشِيئَةِ هَلْ هُوَ مُمْكِنٌ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ أَمْ لَا؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ (٨٧: ٦، ٧) أَوْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى النَّفْيِ بِكَرَمِ اللهِ وَفَضْلِهِ لَا بِالْإِيجَابِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي اخْتَارَهُ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْلَى، وَلَا يَخِلُّ بِتَوْكِيدِ عُمُومِ النَّفْيِ جَوَازُ تَعَلُّقِ الْمَشِيئَةِ بِالنَّفْيِ فِي كَلَامِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْقَرَائِنُ اللَّفْظِيَّةُ وَالْمَعْنَوِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ هَذَا الْجَائِزِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَشَاءُ عَوْدَتَهُ مَعَ مَنْ آمَنَ مَعَهُ فِي مِلَّةِ قَوْمِهِمْ، فَهُوَ قَدْ قَرَّرَ أَنَّ هَذَا شَيْءٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، فَطَلَبُهُ مِنْ غَيْرِهِ عَبَثٌ، يُؤَكِّدُهُ ذِكْرُ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَنْ مَعَهُ، فَأَفَادَ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ أَوِ الِاقْتِضَاءِ أَنَّهُ لَا يَشَاءُ لَهُمْ إِلَّا مَا عَوَّدَهُمْ بِحُسْنِ تَرْبِيَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَلُطْفِهِ وَعِنَايَتِهِ بِهِمْ؛ إِذْ أَنْجَاهُمْ مِنْ تِلْكَ الْمِلَّةِ الْبَاطِلَةِ، وَهُوَ تَأْيِيدُ عِصْمَةِ رَسُولِهِمْ وَحِفْظِ جَمَاعَتِهِمْ مِنَ الْعَوْدِ فِيهَا، فَكَانَ هَذَا بِمَعْنَى قَوْلِ عَبْدٍ أَمِينٍ أَرَادَ أَنْ يُغْوِيَهُ بَعْضُ الْمُغْوِينَ، وَيُغْرِيَهُ بِخِيَانَةِ سَيِّدِهِ الْحَفِيِّ بِهِ، وَصَرَفَ بَعْضَ مَالِهِ فِيمَا يَضُرُّهُ هُوَ، وَيُفْسِدُ عَلَيْهِ نَفْسَهُ: لَيْسَ هَذَا مِنْ شَأْنِي، وَلَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي تَصَرُّفِي إِلَّا أَنْ يَشَاءَ سَيِّدِي الصَّالِحُ الْمُصْلِحُ الْمُعْتَنِي بِشَأْنِي، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنِّي بِأَمْرِي. فَالتَّعْبِيرُ لَيْسَ مَسُوقًا

لِتَقْرِيرِ حُجَّةِ الْأَشَاعِرَةِ عَلَى جَوَازِ مَشِيئَةِ اللهِ لِكُفْرِهِمْ بِالْفِعْلِ، وَلَا حُجَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ لَهُمْ، وَلِغَيْرِهِمْ بِالْعَقْلِ، وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ عِنَايَةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِرُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِمُ الْمُسْتَقِيمِينَ عَلَى دِينِهِمْ وَمُضِيِّ سُنَّتِهِ وَوَعْدِهِ بِتَأْيِيدِهِمُ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٤٠: ٥١) وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (٣٧: ١٧١ - ١٧٣) فَهُوَ لَنْ يَشَاءَ كُفْرَهُمْ بِالْفِعْلِ، بَلْ يَخْتَارُ لَهُمُ الْأَصْلَحَ بِحِكْمَتِهِ وَفَضْلِهِ لَا بِإِيجَابِ الْعَقْلِ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ: السُّدِّيِّ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: وَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَعُودَ فِي شِرْكِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا، وَاللهُ لَا يَشَاءُ الشِّرْكَ، وَلَكِنْ يَقُولُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ اللهُ قَدْ عَلِمَ شَيْئًا فَإِنَّهُ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا اهـ، وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَشَاءُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِسُنَّتِهِ الْحَكِيمَةِ وَفَضْلِهِ الْعَظِيمِ عَلَى رُسُلِهِ وَمَنْ آمَنَ بِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقَعُ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ بِسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ إِلَّا بِإِرَادَتِهِ وَمُقْتَضَى سُنَّتِهِ، وَسُنَنُهُ فِي الْفَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفَةٌ كَمَا شَرَحْنَاهُ مِرَارًا.

وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ: وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (٦: ٨٠)

<<  <  ج: ص:  >  >>