للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ضَعِيفٌ مُحْتَاجٌ - وَهَذَا هُوَ مَعْنَى السِّحْرِ فِي اللُّغَةِ، ثُمَّ نُقِلَ هَذَا الِاسْمُ إِلَى كُلِّ أَمْرٍ خَفِيَ سَبَبُهُ، وَتُخُيِّلَ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ، وَيَجْرِي مَجْرَى التَّمْوِيهِ وَالْخِدَاعِ، وَمَتَى أُطْلِقَ وَلَمْ يُقَيَّدْ أَفَادَ ذَمَّ فَاعِلِهِ، وَقَدْ أُجْرِيَ مُقَيَّدًا فِيمَا يُمْتَدَحُ وَيُحْمَدُ، كَمَا رُوِيَ: " إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا ".

وَهَاهُنَا ذَكَرَ الْجَصَّاصُ رِوَايَتَهُ لِهَذَا الْحَدَثِ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ وَأَطَالَ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي زُهَاءِ وَرَقَةٍ كَبِيرَةٍ ذَكَرَ فِي أَثْنَائِهِ سِحْرَ سَحَرَةِ مُوسَى لِأَعْيُنِ النَّاسِ، وَتَخَيُّلَهُمْ أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ تَسْعَى، وَلَمْ تَكُنْ تَسْعَى، وَذَكَرَ مَا قِيلَ مِنْ حِيلَتِهِمْ فِي ذَلِكَ بِوَضْعِ الزِّئْبَقِ فِيهَا وَتَحْرِيكِ النَّارِ الْخَفِيَّةِ لِلزِّئْبَقِ فَكَانَ سَبَبَ حَرَكَتِهَا، وَسَيَأْتِي نَقْلُ ذَلِكَ عَنْهُ قَرِيبًا، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةً تَارِيخِيَّةً فِي أَصْلِ السِّحْرِ بِبَابِلَ، وَقَفَى عَلَيْهَا بِبَيَانِ أَنْوَاعِهِ فَقَالَ: كَلَامُ الْجَصَّاصِ فِي السِّحْرِ وَأَنْوَاعِهِ.

" وَإِذْ قَدْ بَيَّنَّا أَصْلَ السِّحْرِ فِي اللُّغَةِ، وَحُكْمَهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فَلْنَقُلْ فِي مَعْنَاهُ فِي التَّعَارُفِ وَالضُّرُوبِ الَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا هَذَا الِاسْمُ، وَمَا يَقْصِدُ بِهِ كُلُّ فَرِيقٍ

مِنْ مُنْتَحِلِيهِ، وَالْغَرَضُ الَّذِي يَجْرِي إِلَيْهِ مُدَّعُوهُ، فَنَقُولُ وَبِاللهِ التَّوْفِيقِ: إِنَّ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ إِلَى أَنْحَاءَ مُخْتَلِفَةٍ

(فَمِنْهَا سِحْرُ أَهْلِ بَابِلَ) الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ (٢: ١٠٢) وَكَانُوا قَوْمًا صَابِئِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيُسَمُّونَهَا آلِهَةً، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ حَوَادِثَ الْعَالَمِ كُلَّهَا مِنْ أَفْعَالِهَا، وَهُمْ مُعَطِّلَةٌ لَا يَعْتَرِفُونَ بِالصَّانِعِ الْوَاحِدِ الْمُبْدِعِ لِلْكَوَاكِبِ وَجَمِيعِ أَجْرَامِ الْعَالَمِ، وَهُمُ الَّذِينَ بَعَثَ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحَاجَّهُمْ بِالْحِجَاجِ الَّذِي بَهَرَهُمْ بِهِ، وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةَ مِنْ حَيْثُ لَمْ يُمْكِنْهُمْ دَفْعَهُ، ثُمَّ أَلْقَوْهُ فِي النَّارِ فَجَعَلَهَا اللهُ بَرْدًا وَسَلَامًا، ثُمَّ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْهِجْرَةِ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَ أَهْلُ بَابِلَ وَإِقْلِيمِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَالرُّومِ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ إِلَى أَيَّامِ بِيُورَاسِبَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الضَّحَّاكَ، وَأَنَّ أَفْرِيدُونَ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ دَنْيَاوَنْدَ اسْتَجَاشَ عَلَيْهِ بِلَادَهُ، وَكَاتَبَ سَائِرَ مَنْ يُطِيعُهُ، وَلَهُ قَصَصٌ طَوِيلَةٌ حَتَّى أَزَالَ مُلْكَهُ وَأَسَرَهُ، وَجُهَّالُ الْعَامَّةِ وَالنِّسَاءِ عِنْدَنَا يَزْعُمُونَ أَنَّ أَفْرِيدُونَ حَبَسَ بِيُورَاسِبَ فِي جَبَلِ دَنْيَاوَنْدَ الْعَالِي عَلَى الْجِبَالِ، وَأَنَّهُ حَيٌّ هُنَاكَ مُقَيَّدٌ، وَأَنَّ السَّحَرَةَ يَأْتُونَهُ هُنَاكَ فَيَأْخُذُونَ عَنْهُ السِّحْرَ، وَأَنَّهُ سَيَخْرُجُ فَيَغْلِبُ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ هُوَ الدَّجَّالُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَحَذَّرَنَاهُ، وَأَحْسَبُهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ عَنِ الْمَجُوسِ، وَصَارَتْ مَمْلَكَةُ إِقْلِيمِ بَابِلَ لِلْفُرْسِ، فَانْتَقَلَ بَعْضُ مُلُوكِهِمْ إِلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ فَاسْتَوْطَنُوهَا، وَلَمْ يَكُونُوا عَبَدَةَ أَوْثَانٍ، بَلْ كَانُوا مُوَحِّدِينَ مُقِرِّينَ بِاللهِ وَحْدَهُ، إِلَّا أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُعَظِّمُونَ الْعَنَاصِرَ الْأَرْبَعَةَ: الْمَاءَ، وَالنَّارَ، وَالْأَرْضَ، وَالْهَوَاءَ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ مَنَافِعِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ بِهَا قِوَامَ الْحَيَوَانِ، وَإِنَّمَا حَدَثَتِ الْمَجُوسِيَّةُ فِيهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ كَشْتَاسِبَ حِينَ دَعَاهُ زَرَادُشْتُ فَاسْتَجَابَ لَهُ عَلَى شَرَائِطَ يَطُولُ شَرْحُهَا، وَإِنَّمَا غَرَضُنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْإِبَانَةُ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ سَحَرَةُ بَابِلَ، وَلَمَّا ظَهَرَ الْفُرْسُ عَلَى هَذِهِ الْإِقْلِيمِ كَانَتْ

<<  <  ج: ص:  >  >>