وَبِهَذَا النَّظَرِ سَمُّوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَاحِرًا فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ (٤٣: ٤٩) .
(وَالثَّانِي) : اسْتِجْلَابُ مُعَاوَنَةِ الشَّيَاطِينِ بِضَرْبٍ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٦: ٢٢١، ٢٢٢) وَعَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (٢: ١٠٢) .
(وَالثَّالِثُ) مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الْأَغْتَامُ، وَهُوَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ قُوَّتِهِ يُغَيِّرُ الصُّوَرَ وَالطَّبَائِعَ، فَيَجْعَلُ الْإِنْسَانَ حِمَارًا، وَلَا حَقِيقَةَ لِذَلِكَ عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ، وَقَدْ تُصُوِّرَ مِنَ السِّحْرِ تَارَةً حُسْنُهُ فَقِيلَ: " إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا " وَتَارَةً دِقَّةُ فِعْلِهِ حَتَّى قَالَتِ الْأَطِبَّاءُ: الطَّبِيعَةُ سَاحِرَةٌ وَسَمُّوا الْغِذَاءَ سِحْرًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَدُقُّ وَيَلْطُفُ تَأْثِيرُهُ اهـ.
وَقَدْ عَقَدَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ عَلَى الرَّازِيِّ الْمَعْرُوفِ بِالْجَصَّاصِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ بَابًا خَاصًّا مِنْ تَفْسِيرِهِ الْجَلِيلِ (أَحْكَامِ الْقُرْآنِ) لِبَيَانِ مَعْنَى السِّحْرِ، وَحُكْمِ السَّاحِرِ عِنْدَ كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعْلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (٢: ١٠٢) قَالَ فِي أَوَّلِهِ: " الْوَاجِبُ أَنَّ نُقَدِّمَ الْقَوْلَ فِي السِّحْرِ لِخَفَائِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَضْلًا عَنِ الْعَامَّةِ، ثُمَّ نُعْقِبَهُ بِالْكَلَامِ فِي حُكْمِهِ فِي مُقْتَضَى الْآيَةِ فِي الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ فَنَقُولُ:
إِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَذْكُرُونَ أَنَّ أَصْلَهُ فِي اللُّغَةِ لِمَا لَطُفَ وَخَفِيَ سَبَبُهُ، وَالسَّحْرُ عِنْدَهُمْ بِالْفَتْحِ هُوَ الْغِذَاءُ لِخَفَائِهِ وَلُطْفِ مَجَارِيهِ، قَالَ لَبِيَدٌ:
أَرَانَا مَوْضِعَيْنِ لِأَمْرِ غَيْبٍ ... وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ
" قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: نُعَلَّلُ وَنُخْدَعُ كَالْمَسْحُورِ الْمَخْدُوعِ - وَالْآخَرُ: نُغَذَّى، وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ كَانَ فَمَعْنَاهُ الْخَفَاءُ، وَقَالَ آخَرُ:
فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا ... عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الْأَنَامِ الْمُسَحَّرِ
" وَهَذَا الْبَيْتُ يَحْتَمِلُ مِنَ الْمَعْنَى مَا احْتَمَلَهُ الْأَوَّلُ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّهُ أَرَادَ بِالسَّحْرِ أَنَّهُ ذُو سَحْرٍ، وَالسَّحْرُ: الرِّئَةُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُلْقُومِ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْخَفَاءِ أَيْضًا، وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (٢٦: ١٨٥) يَعْنِي مِنَ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يُطْعَمُ وَيُسْقَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا (٢٦: ١٨٦) وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ (٢٥: ٧٥) وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ذُو سِحْرٍ مِثْلُنَا، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ السِّحْرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِضَعْفِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ وَلِطَاقَتِهَا وَرِقَّتِهَا، وَبِهَا مَعَ ذَلِكَ قِوَامُ الْإِنْسَانِ - فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute