للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَخْرَجَ مُوسَى بِالْقُوَّةِ؛ سِتْرًا لِخِزْيِهِمْ وَخِذْلَانِهِمْ، وَإِرْضَاءً لِمُلُوكِهِمْ وَأَسَرَ (جَمْعَ أُسُرِهِ بِالضَّمِّ) هَؤُلَاءِ الْمُلُوكُ، وَرُبَّمَا أَنَّهُ لَوْلَا عِظَمُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَشُهْرَتُهَا بَيْنَهُمْ لَأَنْكَرُوهَا بِالْمَرَّةِ.

" وَمِنْ ذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْخُرُوجَ لَمْ يَكُنْ عَقِبَ غَرَقِ الْمِصْرِيِّينَ مُبَاشَرَةً كَمَا يُفْهَمُ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَلَمْ يَكُنِ السَّبَبُ فِيهِ هَذِهِ الْحَادِثَةَ الَّتِي غَرَقَ فِيهَا فِرْعَوْنُ وَجَيْشُهُ بَلْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِبَعْضِ سِنِينَ ".

وَيَرَى الْمُطَّلِعُ عَلَى الْقُرْآنِ الشَّرِيفِ أَنَّ هَاتَيْنِ الرُّوَايَتَيْنِ صَادِقَتَانِ فِي مَسْأَلَةِ غَرَقِ فِرْعَوْنَ فِي النِّيلِ، وَمَسْأَلَةِ حُكْمِ مُوسَى فِي مِصْرَ ١٣ سَنَةً، وَأَمَّا الْغَرَقُ فِي النَّيْلِ فَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْقُرْآنِ مَثَلًا فِي سُورَةِ طَهَ: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ (٢٠: ٣٨، ٣٩) ثُمَّ قَوْلِهِ فِي آخِرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ فَالْمُتَبَادَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ غَرَقَ فِي نَفْسِ الْيَمِّ الَّذِي أُلْقِيَ فِيهِ مُوسَى وَهُوَ النِّيلُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا مَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ (٢٨: ٧) ثُمَّ قَوْلُهُ فِيهَا بَعْدُ: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودُهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ

(٢٨: ٤٠) .

" وَأَمَّا مَسْأَلَةُ حُكْمِ مُوسَى فِي مِصْرَ، وَالتَّمَتُّعِ بِهَا هُوَ وَقَوْمُهُ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ بَعْدَ الْغَرَقِ فَهُوَ أَيْضًا الْمُتَبَادَرُ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَرَادَ أَيْ: فِرْعَوْنُ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ (١٧: ١٠٣، ١٠٤) وَقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (٢٦: ٥٧ - ٥٩) وَيَجُوزُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ أُعْطِيَتْ لِمُوسَى فِي الطُّورِ قَبْلَ تَرْكِهِ حُكْمَ مِصْرَ.

" وَفِي زَمَنِ مُوسَى أَعْطَى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ - بَدَلًا عَنْ مِصْرَ الَّتِي أَمَرَهُمْ بِتَرْكِهَا - الْمَمَالِكَ الَّتِي فِي شَرْقِ الْأُرْدُن كَمَا فِي كُتُبِهِمْ، وَفِي زَمَنِ يَشُوعَ أَعْطَاهُمْ كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ إِلَّا بَعْضَ أَجْزَاءٍ مِنْهَا (يش ١٣: ١) وَهَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُمْ هِيَ مِنْ أَخْصَبِ أَرَاضِي الْعَالَمِ وَأَحْسَنِهَا، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ عِنْدَهُمْ بِأَرْضِ الْمَوْعِدِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا وُعِدُوا بِهَا مِنْ قَبْلُ.

" فَأَنَّى لِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عِلْمُ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ ذَلِكَ التَّارِيخِ، وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ وَعَنْ قَوْمِهِ؟ وَمُغَايِرٌ لِلتَّوْرَاةِ، وَمُخَالِفٌ لِمَا يَعْتَقِدُهُ جَمِيعُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَلَكِنَّهُ مُوَافِقٌ لِأَقْدَمِ الرِّوَايَاتِ الْمِصْرِيَّةِ وَأَصَحِّهَا الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا - حَتَّى الْآنَ - إِلَّا وَاسِعُو الِاطِّلَاعِ مِنْ مُحَقِّقِي الْمُؤَرِّخِينَ؟

" وَأَمَّا مَانِيثُو Manetho الْمَذْكُورُ هُنَا الَّذِي وَافَقَتْ رِوَايَتُهُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الشَّرِيفِ، فَكَانَ كَاهِنًا لِمَعْبَدٍ مِنْ أَقْدَمِ الْمَعَابِدِ وَأَشْهَرِهَا، وَقَدْ كَتَبَ تَارِيخَ مِصْرَ بِأَمْرِ بَطْلَيْمُوسَ فِيلَادَلْفُوسَ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَكَانَ مِنْ أَدَقِّ مُؤَرِّخِي الْقُدَمَاءِ وَأَصْدَقِهِمْ، وَقَدْ أَخَذَ بِأَوْثَقِ الْمَصَادِرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>