فَنَجْتَنِبُ مِنْهُ مَا لَنَا غِنًى عَنْهُ، وَمَا كَانَ نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ بِنَفْسِهِ لَا نَأْخُذُهُ بِقَصْدِ التَّشَبُّهِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ تَعْظِيمِ الْمُتَشَبِّهِ لِغَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ أَوْ يَسْتَلْزِمُ احْتِقَارَهَا أَوِ احْتِقَارَهُمْ وَالشُّعُورَ بِأَنَّهُمْ دُونَهُمْ، وَأَمَّا اقْتِبَاسُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ النَّافِعَةِ؛ لِأَجْلِ مَنْفَعَتِهَا بِقَدْرِهَا فَلَيْسَ مِنَ التَّشَبُّهِ، وَلَا مِنْ تَفْضِيلِ الْمُقْتَبِسِ مِنْهُمْ عَلَى أَهْلِ مِلَّتِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَيْسَتْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَلَا اقْتُبِسَتْ لِأَجْلِ التَّعْظِيمِ بَلْ لِفَائِدَتِهَا، وَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ الْفَائِدَةُ مِمَّا تَعْتَزُّ بِهِ مِلَّةُ الْمُقْتَبِسِ الْمُسْتَفِيدِ وَأَهْلِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ أَخْذُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَمَلَ الْخَنْدَقِ عَنِ الْفُرْسِ؛ إِذْ أَخْبَرَهُ سَلْمَانُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ عَنْهُمْ بِذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْأَخْذُ وَاجِبًا شَرْعًا، وَمِنْهُ أَخْذُنَا لِفُنُونِ الْحَرْبِ وَصِنَاعَتِهَا وَآلَاتِهَا عَنِ الْإِفْرِنْجِ؛ إِذْ أَتْقَنُوهَا قَبْلَنَا، فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِلَا نِزَاعٍ، فَالْأُمَّةُ الْحَيَّةُ تَقْتَبِسُ كُلَّ شَيْءٍ نَافِعٍ يُغَذِّي حَيَاتَهَا، وَيَزِيدُهَا قُوَّةً وَعِزَّةً، وَتَتَّقِي فِي ذَلِكَ كُلَّ مَا فِيهِ ضَعْفٌ لَهَا فِي مُقَوِّمَاتِهَا أَوْ مُشَخِّصَاتِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِيهِ تَفْضِيلٌ لِخُصُومِهَا أَوْ غَيْرِهِمْ عَلَيْهَا، وَقَدْ فَطِنَ الْيَابَانُ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَحَافَظُوا عَلَى شُئُونِهِمُ الْمِلِّيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ عِنْدَ اقْتِبَاسِهِمْ لِعُلُومِ الْفِرِنْجَةِ وَفُنُونِهَا، فَصَارُوا مِثْلَهُمْ فِي ثُلُثِ قَرْنٍ، وَغَفَلَ عَنْهُ التُّرْكُ وَالْمِصْرِيُّونَ فَأَضَاعُوا مِنْ مُلْكِهِمْ.
وَلَيْسَ فِي نَصْبِ التَّمَاثِيلِ فَائِدَةٌ وَمَنْفَعَةٌ ذَاتُ بَالٍ لَا تَحْصُلُ بِغَيْرِهَا تُبِيحُ لِلْمُسْلِمِينَ تَقْلِيدَ الْوَثَنِيِّينَ وَالنَّصَارَى فِيهَا، وَلَوْ فِي جَعْلِهَا لِغَيْرِ رِجَالِ الدِّينِ بُعْدًا عَنْ شُبْهَةِ عِبَادَتِهَا، وَمَنْ ذَا الَّذِي يَأْمَنُ هَذَا وَقَدْ عُبِدَتْ قُبُورُ الْأَوْلِيَاءِ، وَأَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ، كَمَا عَبَدَ غُلَاةُ الشِّيعَةِ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ أَشْخَاصًا مِنْهُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَنَرَى الشِّيعَةَ الْمُعْتَدِلِينَ الَّذِينَ اسْتَبَاحُوا نَصْبَ التَّمَاثِيلِ غَيْرِ الدِّينِيَّةِ قَدِ اتَّخَذَ بَعْضُهُمْ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ تِمْثَالًا لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ فِي بِلَادِ إِيرَانَ كَمَا نَقَلَتْ صُحُفُ الْأَخْبَارِ عَنْهُمْ، وَأَمَّا الصُّوَرُ فَلَهَا فَوَائِدُ فِي الْحَرْبِ، وَحِفْظِ الْأَمْنِ، وَتَحْقِيقِ مَعَانِي اللُّغَةِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ، وَلَا سِيَّمَا
الطِّبُّ وَالتَّشْرِيحُ. . . فَلَا يَحْظُرُ مِنْهَا مَا لَيْسَ عِبَادَةً، وَلَا تَشَبُّهًا بِعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ بِدَلِيلِ مَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِهَتْكِ الْقِرَامِ (السِّتَارِ) الَّذِي نَصَبَتْهُ (عَائِشَةُ) فِي حُجْرَتِهَا؛ إِذْ كَانَ عَلَى هَيْئَةِ الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمَعْبُودَةِ، فَلَمَّا جَعَلَتْ مِنْهُ وِسَادَةً كَانَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَسْتَعْمِلُهَا وَفِيهَا الصُّوَرُ؛ إِذْ كَانَ الِاتِّكَاءُ وَالنَّوْمُ عَلَيْهَا امْتِهَانًا لَا تَعْظِيمًا، وَلَا يُشْبِهُ التَّعْظِيمَ الْوَثَنِيَّ. وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذَا الْبَحْثَ بِبَيَانِ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي فَتَاوَى الْمَنَارِ مِرَارًا.
عَوْدٌ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ:
مَعْنَى النَّظْمِ الْكَرِيمِ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ أَنَّهُمْ تَجَاوَزُوهُ بِعِنَايَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَأْيِيدِهِ إِيَّاهُمْ بِفَلْقِ الْبَحْرِ، وَتَيْسِيرِ الْأَمْرِ، حَتَّى كَأَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ بِذَاتِهِ فَجَاوَزَهُ مُصَاحِبًا لَهُمْ، أَوِ الْمَعْنَى: أَنَّنَا أَيَّدْنَاهُمْ بِبَعْضِ مَلَائِكَتِنَا، فَجَاوَزَ بِهِمُ الْبَحْرُ بِأَمْرِنَا، فَمِنَ الْمَعْهُودِ فِي اللُّغَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute