يَتَوَسَّلُونَ بِهَا إِلَى الْخَالِقِ كَمَا حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ بَعْضِ عُلَمَائِهِمْ فِي الْهِنْدِ.
مَاذَا كَانَ جَوَابُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وَصَفَهُمْ بِالْجَهْلِ الْمُطْلَقِ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ بِشَيْءٍ، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَتِنَا وَطَرِيقَةِ ابْنِ جَرِيرٍ، وَالْخَصَّافِ: يَشْمَلُ كُلَّ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ فَقْدُ الْعِلْمِ، وَالْجَهْلِ الَّذِي هُوَ سَفَهُ النَّفْسِ وَطَيْشُ الْعَقْلِ، وَأَهَمُّهُ الْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ جَهْلُ التَّوْحِيدِ، وَمَا يَجِبُ مِنْ إِفْرَادِ الرَّبِّ
تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَلَا التَّقَيُّدِ بِمَظْهَرٍ مِنَ الْمَظَاهِرِ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مَعَهُ، وَلَا سِيَّمَا مَظْهَرُ الْأَصْنَامِ وَالتَّمَاثِيلِ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي اغْتَرَّ الْجَاهِلُونَ مِنْ قَبْلُ بِنَفْعِهَا أَوِ الْخَوْفِ مِنْ ضَرَرِهَا، فَالْأَوَّلُ كَالْكَوَاكِبِ وَالنِّيلِ وَالْعِجْلِ أَبِيسَ، وَالثَّانِي كَالثُّعْبَانِ، ثُمَّ جَهْلِ مَا كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الْبَشَرَ فَجَعَلَهُمْ أَهْلًا لِمَعْرِفَتِهِ وَدُعَائِهِ وَمُنَاجَاتِهِ كِفَاحًا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ يُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِمْ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، وَهُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي يُتَوَجَّهُ إِلَيْهِ، وَيُقْصَدُ وَحْدَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ إِمَامَا الْمُوَحِّدِينَ، إِبْرَاهِيمُ وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦: ٧٩) وَأَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ (٣: ٢٠) .
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْجَهْلِ هُوَ الَّذِي قَالَ تَعَالَى فِيهِ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (٢: ١٣٠) وَإِسْنَادُ الْجَهْلِ إِلَى الْقَوْمِ أَبْلَغُ مِنْ إِسْنَادِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ بِمَا هُوَ كَالْمُتَحَقَّقِ الْمَعْرُوفِ مِنْ حَالِهِمْ، الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ لِمَقَالِهِمْ، يَدْخُلُ فِيهِ الَّذِينَ سَأَلُوهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا.
وَبَعْدَ أَنْ ذَكَّرَهُمْ بِسُوءِ حَالِهِمْ مِنْ جَهْلِهِمْ وَسَفَاهَةِ أَنْفُسِهِمْ، بَيَّنَ لَهُمْ فَسَادَ مَا طَلَبُوهُ فِي نَفْسِهِ عَسَى أَنْ تَسْتَعِدَّ عُقُولُهُمْ لِفَهْمِهِ، وَاسْتِبَانَةِ قُبْحِهِ، فَقَالَ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ الْمُفِيدِ لِلتَّعْلِيلِ وَالدَّلِيلِ: إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ التَّبَارُ وَالتَّبْرُ: الْإِهْلَاكُ وَالتَّدْمِيرُ، وَالتَّتْبِيرُ: الْهَلَاكُ. يُقَالُ: تَبِرَ الشَّيْءُ مِنْ بَابِي تَعِبَ وَنَصَرَ، وَتَبَّرَهُ - بِالتَّشْدِيدِ: أَهْلَكَهُ وَدَمَّرَهُ؛ أَيْ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ يَعْكُفُونَ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَامِ مَقْضِيٌّ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ بِالتَّبَارِ بِمَا سَيَظْهَرُ مِنَ التَّوْحِيدِ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الدِّيَارِ، وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَعِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ؛ أَيْ: هَالِكٌ وَزَائِلٌ لَا بَقَاءَ لَهُ، فَإِنَّمَا بَقَاءُ الْبَاطِلِ فِي تَرْكِ الْحَقِّ لَهُ أَوْ بُعْدِهِ عَنْهُ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْبِشَارَةَ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِزَوَالِ الْوَثَنِيَّةِ مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ كَانَ.
قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّ طَلَبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلْآلِهَةِ لَمْ يَكُنْ عَنْ شَكٍّ مِنْهُمْ بِوَحْدَانِيَّةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute