اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا كَانَ غَرَضُهُمْ إِلَهًا يُعَظِّمُونَهُ، وَيَتَقَرَّبُونَ بِتَعْظِيمِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالدِّيَانَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ جَهْلَهُمْ كَمَا آذَنَتْ بِهِ الْآيَاتُ.
وَقَالَ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يَقُولَ الْعَاقِلُ لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً وَخَالِقًا مُدَبِّرًا؛ لِأَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ بِجَعْلِ مُوسَى وَتَدْبِيرِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِلْعَالَمِ وَمُدَبِّرًا لَهُ، وَمَنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كَامِلَ الْعَقْلِ،
وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْ مُوسَى أَنْ يُعَيِّنَ لَهُمْ أَصْنَامًا وَتَمَاثِيلَ يَتَقَرَّبُونَ بِعِبَادَتِهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ حَيْثُ قَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى (٣٩: ٣) إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ كُفْرًا؟ فَنَقُولُ: أَجْمَعَ كُلُّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى أَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى كُفْرٌ، سَوَاءٌ اعْتَقَدُوا فِي ذَلِكَ كَوْنَهُ إِلَهًا لِلْعَالَمِ أَوِ اعْتَقَدُوا فِيهِ أَنَّ عِبَادَتَهُ تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ نِهَايَةُ التَّعْظِيمِ، وَنِهَايَةُ التَّعْظِيمِ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ يَصْدُرُ عَنْهُ نِهَايَةُ الْإِنْعَامِ وَالْإِكْرَامِ.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَنْ جَزَمَ بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ صَدَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ لَا كُلِّهِمْ، وَأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَتَرَفَّعُ عَنْهُ مَا نَصُّهُ: ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَجَابَهُمْ فَقَالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَهْلِ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ غَايَةُ التَّعْظِيمِ، فَلَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ يَصْدُرُ عَنْهُ غَايَةُ الْإِنْعَامِ، وَهِيَ بِخَلْقِ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ وَالشَّهْوَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعَقْلِ وَخَلْقِ الْأَشْيَاءِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، وَالْقَادِرُ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَلَّا تَلِيقَ الْعِبَادَةُ إِلَّا بِهِ (فَإِنْ قَالُوا) إِذَا كَانَ مُرَادُهُمْ بِعِبَادَةِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ التَّقَرُّبَ بِهَا إِلَى تَعْظِيمِ اللهِ تَعَالَى فَمَا الْوَجْهُ فِي قُبْحِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ؟ (قُلْنَا) : فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَتَّخِذُوهَا آلِهَةً أَصْلًا وَإِنَّمَا جَعَلُوهَا كَالْقِبْلَةِ، وَذَلِكَ يُنَافِي قَوْلَهُمْ: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ اهـ.
أَقُولُ: مِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَقَعَ أَمَامَ النُّظَّارِ فِي عِلْمِ الْعَقَائِدِ عَلَى طَرِيقَةِ الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ فِي مِثْلِ هَذَا الْخَطَأِ أَسْئِلَتُهُ وَأَجْوِبَتُهُ وَالتَّنَاقُضُ فِي كَلَامِهِ، وَمَنْشَأُ هَذَا الْخَطَأِ الْغَفْلَةُ عَنْ مَدْلُولِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَاسْتِعْمَالُهَا بِلَوَازِمِ مَعْنَاهَا الْعُرْفِيَّةِ كَلَفْظِ " الْإِلَهِ " فَإِنَّ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الْمَعْبُودُ مُطْلَقًا لَا الْخَالِقُ وَلَا الْمُدَبِّرُ لِأَمْرِ الْعَالَمِ كُلِّهِ وَلَا بَعْضِهِ، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ سَمَّوْا أَصْنَامَهُمْ وَغَيْرَهَا مِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ آلِهَةً، يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّاتَ أَوِ الْعُزَّى أَوْ هُبَلًا خَلَقَ شَيْئًا مِنَ الْعَالَمِ أَوْ يُدَبِّرُ أَمْرًا مِنْ أُمُورِهِ، وَإِنَّمَا تَدْبِيرُ أُمُورِ الْعَالَمِ يَدْخُلُ فِي مَعْنَى لَفْظِ الرَّبِّ، وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ نَاطِقَةٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمُدَبِّرَ أُمُورِهِمَا هُوَ اللهُ تَعَالَى، وَإِنَّ آلِهَتَهُمْ لَيْسَ لَهَا مِنْ أَمْرِ الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ شَيْءٌ، وَإِنَّ شِرْكَهُمْ لِأَجْلِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَابْتِغَاءِ الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ بِعِبَادَةِ مَا عَبَدُوهُ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي طَوَافِهِ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ،
إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute