قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: أَيْ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ، ذَكَرَهُمَا الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ وَقَالَ: وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قَدْ كَانَ قَبْلَهُ مُؤْمِنُونَ، وَلَكِنْ يَقُولُ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِكَ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ لَهُ اتِّجَاهٌ، وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ هَاهُنَا أَثَرًا طَوِيلًا فِيهِ غَرَائِبُ وَعَجَائِبُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقِ بْنِ يَسَارٍ، وَكَأَنَّهُ تَلَقَّاهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ.
خُلَاصَةُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا نَالَ فَضِيلَةَ تَكْلِيمِ اللهِ - تَعَالَى - لَهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ فَسَمِعَ مَا لَمْ يَكُنْ يَسْمَعُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي لَا شِبْهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ فِي هَذَا الْعَالَمِ، طَلَبَ مِنَ الرَّبِّ - تَعَالَى - أَنْ يَمْنَحَهُ شَرَفَ رُؤْيَتِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ حَتْمًا أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي صِفَاتِهِ الَّتِي مِنْهَا كَلَامُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَكَمَا أَنَّهُ سَمِعَ كَلَامًا لَيْسَ كَمِثْلِهِ كَلَامٌ بِتَخْصِيصٍ رَبَّانِيٍّ - اسْتَشْرَفَ لِرُؤْيَةِ ذَاتٍ لَيْسَ كَمِثْلِهَا شَيْءٌ مِنَ الذَّوَاتِ، كَمَا فُهِمَ مِنْ تَرْتِيبِ السُّؤَالِ عَلَى التَّكْلِيمِ، فَلَمْ يَكُنْ عَقْلُ مُوسَى - وَهُوَ فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنَ الْعُقُولِ الْبَشَرِيَّةِ بِدَلِيلَيِ الْعَقْلِ
وَالنَّقْلِ - مَانِعًا لَهُ مِنْ هَذَا الطَّلَبِ، وَلَمْ يَكُنْ دِينُهُ وَعِلْمُهُ بِاللهِ - تَعَالَى - وَهُمَا فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا أَيْضًا - مَانِعَيْنِ لَهُ مِنْهُ، وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَالَ لَهُ: لَنْ تَرَانِي وَلِكَيْ يُخَفِّفَ عَلَيْهِ أَلَمَ الرَّدِّ وَهُوَ كَلِيمُهُ الَّذِي قَالَ لَهُ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِالْوَحْيِ إِلَيْهِ: وَاصْطَنَعَتْكَ لِنَفْسِي (٢٠: ٤١) أَرَاهُ بِعَيْنَيْهِ وَمَجْمُوعِ إِدْرَاكِهِ مِنْ تَجَلِّيهِ لِلْجَبَلِ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ سِوَاهُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ جِهَتِهِ هُوَ لَا مِنَ الْجُودِ الرَّبَّانِيِّ، فَنَزَّهَ اللهَ وَسَبَّحَهُ وَتَابَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الطَّلَبِ، فَبَشَّرَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ اصْطَفَاهُ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ - أَيْ: بِدُونِ رُؤْيَتِهِ -، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَأْخُذَ مَا أَعْطَاهُ، وَيَكُونَ مِنَ الشَّاكِرِينَ لَهُ.
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي الِاصْطِفَاءُ: اخْتِيَارُ صَفْوَةِ الشَّيْءِ، وَصَفْوُهُ؛ أَيْ: خَالِصُهُ الَّذِي لَا شَائِبَةَ فِيهِ، وَمِنْهُ الصَّفِّيُّ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ مَا يَصْطَفِيهِ الْإِمَامُ أَوِ الْقَائِدُ الْأَكْبَرُ مِنْهَا وَيَخْتَارُهُ لِنَفْسِهِ، كَاخْتِيَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّيْفَ الْمَعْرُوفَ بِذِي الْفَقَارِ مِنْ غَنَائِمِ غَزْوَةِ بَدْرٍ. وَتَعْدِيَةُ الِاصْطِفَاءِ هُنَا بِـ (عَلَى) لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى التَّفْصِيلِ، فَالْمَعْنَى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكُ مُفَضِّلًا إِيَّاكَ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَهْلِ زَمَانِكَ بِالرِّسَالَةِ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ " بِرِسَالَتِي " وَالْبَاقُونَ " بِرِسَالَاتِي " فَإِفْرَادُهَا بِمَعْنَى الِاسْمِ مِنَ الْإِرْسَالِ، وَجَمْعُهَا بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ مَا أُرْسِلَ بِهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالشَّخْصِيَّةِ، وَقِيلَ بِتَعَدُّدِ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ مَا أَوْحَاهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ إِلَى مُوسَى، وَهُوَ مَوْضُوعُ رِسَالَتِهِ، وَتَسْمِيَةُ الْأَسْفَارِ الْخَمْسَةِ بِالتَّوْرَاةِ اصْطِلَاحِيَّةٌ، وَقَدْ يُطْلِقُونَهَا عَلَى جَمِيعِ كُتُبِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاصْطَفَيْتُكَ بِكَلَامِي: أَيْ بِتَكْلِيمِي لَكَ بَعْدَ وَحْيِ الْإِلْهَامِ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ مَلَكٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَهُوَ مَا طَلَبَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute