فَتْوَى الْمَنَارِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا (مِنْ ص٢٨٢ م ١٩)
(التَّحْقِيقُ فِي مَسْأَلَةِ رُؤْيَةِ الرَّبِّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -)
إِنَّ مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ الْقَطْعِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ نَعِيمَ الْآخِرَةِ قِسْمَانِ: رُوحَانِيٌّ وَجُسْمَانِيٌّ؛ لِأَنَّ الْبَشَرَ لَا تَنْقَلِبُ حَقِيقَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ يَبْقَوْنَ بَشَرًا أُولِي أَرْوَاحٍ وَأَجْسَادٍ، وَلَكِنَّ الرُّوحَانِيَّةَ تَكُونُ هِيَ الْغَالِبَةَ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَكُونُ النَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ عِنْدَهُمْ أَعْلَى مِنَ النَّعِيمِ الْجُسْمَانِيِّ، وَمِنَ الثَّابِتِ بِالِاخْتِبَارِ وَالتَّجَارِبِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ الرَّاسِخِينَ وَالْحُكَمَاءَ الرَّبَّانِيِّينَ، وَالْفَلَاسِفَةُ الْمَادِّيُّونَ وَالرُّؤَسَاءُ السِّيَاسِيُّونَ - كُلُّهُمْ يُفَضِّلُونَ اللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةَ الرُّوحِيَّةَ وَالْحَيَاةَ الْمَعْنَوِيَّةَ، عَلَى اللَّذَّاتِ الْمَادِّيَّةِ الْجَسَدِيَّةِ، فَتَرَى أَحَدَهُمْ يَزْهَدُ فِي أَطَايِبِ الطَّعَامِ، وَكُئُوسِ الْمُدَامِ،
وَيَتَجَافَى جَنْبُهُ عَنْ مَضْجَعِهِ، ذَاهِلًا عَنْ حُقُوقِ حَلِيلَتِهِ، تَلَذُّذًا بِحَلِّ مُشْكِلَاتِ الْمَسَائِلِ وَاكْتِشَافِ أَسْرَارِ الْكَوْنِ، أَوْ بِالنَّفْثِ فِي عُقَدِ السِّيَاسَةِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ أَعْبَاءُ الرِّيَاسَةِ.
أَلَا وَإِنَّ أَعْلَى الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ الرُّوحِيَّةِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا هُوَ مَعْرِفَةُ اللهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، وَالْعِلْمُ بِمَظَاهِرِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَالْوُقُوفُ عَلَى سُنَنِهِ وَأَسْرَارِهِ فِيهَا، وَكَشْفُ الْحُجُبِ عَمَّا أَوْدَعَ فِيهَا مِنَ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَفِي النِّظَامِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ مِنْ آيَاتِ الْكَمَالِ، الَّتِي هِيَ مَجْلَى صِفَاتِ بَارِئِهَا، وَهُوَ مُنْتَهَى الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ وَالْكَمَالِ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ.
وَمَا زَالَ أَصْحَابُ الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ يَسْتَدِلُّونَ بِمَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ تِلْكَ السُّنَنِ وَالْآيَاتِ عَلَى كَمَالِ مُبْدِعِهَا وَمُبْدِئِهَا وَمُصَرِّفِهَا، وَتَتَطَلَّعُ عُيُونُ عُقُولِهِمْ إِلَى كَيْفِيَّةِ صُدُورِ الْوُجُودِ الْمُمْكِنِ الْحَادِثِ (وَهُوَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ) عَنِ الْوُجُودِ الْأَزَلِيِّ الْوَاجِبِ، وَيَهْتَمُّونَ بِارْتِقَاءِ الْأَسْبَابِ لِلْوُصُولِ إِلَى مَعْرِفَةِ أَوَّلِ مَوْجُودٍ مُمْكِنٍ مِنْهَا، وَكَيْفَ ابْتَدَأَتْ سِلْسِلَةُ الْأَسْبَابِ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَحَوُّلِ الْبَسَائِطِ، وَتَوَلُّدِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، قَبْلَ وُجُودِ هَذِهِ الْمَرْكَبَاتِ الْمَعْرُوفَةِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ طَمَعًا فِي مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ ذَلِكَ الْوُجُودِ الْأَعْلَى عَلَى عَجْزِهِمْ عَنْ إِدْرَاكِ كُنْهِ أَدْنَى هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ السُّفْلَى، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحُكَمَاءُ فِي إِمْكَانِ وُصُولِ الْعِلْمِ الْبَشَرِيِّ إِلَى حَقِيقَةِ الْوُجُودِ الْأَوَّلِ الْأَزَلِيِّ، وَكَيْفِيَّةِ صُدُورِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُمْكِنَةِ عَنْهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِإِمْكَانِ ذَلِكَ، وَتَوَقَّعَ حُصُولَهُ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بِأَنَّهُ فَوْقَ اسْتِعْدَادِ الْأَنَامِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute