أَنْفُسِهِمْ بِأَعْظَمَ مِنْ تَصَرُّفِ عَالِمِ الْكِيمْيَاءِ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ، فَقَدْ أَعْطَى اللهُ - تَعَالَى - الْوَاحِدَ مِنْهُمْ قُدْرَةً عَلَى تَأْلِيفِ جِسْمٍ لِرُوحِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ إِذَا شَاءَ، وَحَلِّهِ وَتَفْرِيقِهِ مَتَى شَاءَ، وَقَدْ وَضَّحْنَا هَذَا التَّقْرِيبَ مِنْ قَبْلُ، وَغَرَضُنَا مِنَ التَّذْكِيرِ بِهِ هُنَا إِيضَاحُ مَسْأَلَةِ تَجَلِّي الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الصُّوَرِ أَوْ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُبِ، وَكَوْنِ رُؤْيَتِهِ لَا تَقْتَضِي تَشْبِيهَهُ بِخَلْقِهِ كَمَا زَعَمَ مَنْ لَمْ يَعْلَمُوا مِنْ أَنْوَاعِ الْإِدْرَاكِ وَالْمُدْرِكَاتِ الْمَخْلُوقَةِ مَا يَقْتَضِي تَشْبِيهَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (١٧: ٨٥) .
(٨) مَذَاهِبُ الصُّوفِيَّةِ فِي الرُّؤْيَةِ:
الصُّوفِيَّةُ فِرْقَةٌ مِنْ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْأُصُولِ، وَهُمْ لَا يُقَلِّدُونَ إِمَامًا وَاحِدًا فِي الْفُرُوعِ، بَلْ مِنْهُمُ الْمُجْتَهِدُونَ وَمِنْهُمُ الْمُقَلِّدُونَ لِأَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ، وَيَكْثُرُ فِيهِمُ الشَّافِعِيَّةُ، كَمَا أَنَّ أَكْثَرَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُرْجِئَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ غَفَلَ مَنْ لَمْ يَعُدَّهُمْ مِنَ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ وَالسَّبْعِينَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَنْ يُسَمَّوْنَ صُوفِيَّةَ الْحَقَائِقِ، وَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْفَلَاسِفَةِ الرُّوحِيِّينَ الْإِشْرَاقِيِّينَ، وَإِلَى قُدَمَاءِ الشِّيعَةِ مِنْهُمْ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْأَثَرِ، وَجُمْهُورُهُمْ يُجِلُّونَ الصَّحَابَةَ وَلَا سِيَّمَا الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَعُلَمَاءَ السَّلَفِ، وَلَا سِيَّمَا الْعُبَّادَ مِنْهُمْ، وَمِنْهُمُ الْمُعْتَدِلُونَ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ كَشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيِّ صَاحِبُ (مَنَازِلِ السَّائِرِينَ) وَمِنْهُمُ الْغُلَاةُ الَّذِينَ مَرَقَ بَعْضُهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ بِنَزَغَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ وَزَيْغِهِمْ، وَهُمْ غُلَاةُ الرَّافِضَةِ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ إِلَى الْبَهَائِيَّةِ وَزُعَمَاؤُهُمْ مِنَ الْفُرْسِ، وَمِنْهُمُ الْبَكْتَاشِيَّةِ وَقَدْ رَاجَتْ دَعْوَتُهُمْ فِي بِلَادِ التُّرْكِ وَالْأَلْبَانِ، وَيُقَابِلُهُمْ صُوفِيَّةُ الْأَخْلَاقِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ مِنْهُمْ يَقُولُونَ فِي الرُّؤْيَةِ مَا يَقُولُ سَائِرُ
أَهْلِ السُّنَّةِ، وَكَذَا الْمُعْتَدِلُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَقَائِقِ، فَتَرَى أَبَا حَامِدٍ الْغَزَالِيَّ مِنْ عُلَمَائِهِمْ قَدْ فَسَّرَ الرُّؤْيَةَ بِمَا يَنْطَبِقُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ، وَشَأْنُ سَائِرِ مُقَلَّدَتِهِمْ كَشَأْنِ سَائِرِ الْمُقَلِّدِينَ لِلْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى.
وَأَمَّا صُوفِيَّةُ الْحَقَائِقِ الْمُسْتَقِلُّونَ فَجُمْهُورُ أَهْلِ الْوَحْدَةِ مِنْهُمْ يُدْخِلُونَهَا فِي مَسَائِلِ الْوَحْدَةِ، فَغُلَاةُ وَحْدَةِ الْوُجُودِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ إِلَّا وُجُودٌ وَاحِدٌ لَهُ مَظَاهِرٌ وَمَجَالِي، فَهُمْ يُثْبِتُونَ الرُّؤْيَةَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَإِلَّا فَالرَّائِيُّ وَالْمَرْئِيُّ وَاحِدٌ عِنْدَهُمْ، يَعْنُونَ أَنَّ الرَّبَّ عَيْنُ الْعَبْدِ، وَالْعَبْدَ عَيْنُ الرَّبِّ، فَاللهُ - تَعَالَى - يَرَى نَفْسَهُ بِمَا يَتَجَلَّى فِيهِ مِنْ صُوَرِ عَبِيدِهِ أَوْ مَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، هَذَا تَنَاقُضٌ وَهَذَيَانٌ بَدِيهِيُّ الْبُطْلَانِ، وَحَسْبُنَا مَا نَنْشُرُهُ فِي الْمَنَارِ مِنْ إِبْطَالِهِ وَتَنَاقُضِهِ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، وَأَمَّا أَصْحَابُ وَحْدَةِ الشُّهُودِ مِنْهُمْ فَمَذْهَبُهُمْ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى يَتَجَلَّى لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا تَجَلِّيًا غَيْرَ كَامِلٍ، وَفِي الْآخِرَةِ تَجَلِّيًا كَامِلًا فَيَفْنَى الْعَبْدُ بِهَذَا التَّجَلِّي عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ كُلِّ مَا سِوَى رَبِّهِ فَلَا يَرَى غَيْرَهُ، وَهُوَ يَرَاهُ بِكُلِّ رُوحِهِ الْمُدْرِكَةِ لَا بِعَيْنَيْهِ فَقَطْ، وَمِنْ كَلَامِ ابْنِ الْفَارِضِ فِيهِ إِذَا مَا بَدَتْ لَيْلَى فَكُلِّي أَعْيُنٌ، فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ بِآلَةِ الْبَاصِرَةِ إِنَّمَا تَكُونُ لِلْأَرْوَاحِ الْمَحْبُوسَةِ فِي هَيَاكِلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute