الْأَجْسَادِ الْمُقَيَّدَةِ بِسُنَنِ اللهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَهِيَ كَالْمَحْبُوسِ فِي سِجْنٍ لَهُ نَوَافِذُ وَكُوًى قَلِيلَةٌ يَرَى مِنْهَا بَعْضَ مَا يُحَاذِيهَا دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا وَرَاءَ السِّجْنِ، وَهُمْ يُثْبِتُونَ تَجَلِّيهِ تَعَالَى فِي الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَا يَرَوْنَ ذَلِكَ مُحَالًا يَجِبُ تَأْوِيلُهُ؛ بَلْ يُبْقُونَ الْأَحَادِيثَ فِي ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهَا كَجُمْهُورِ السَّلَفِ.
وَلِكُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ أَقْوَالٌ وَشَوَاهِدُ مُشْتَرِكَةٌ مَعَهَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَيَعْسُرُ التَّزْيِيلُ بَيْنَهُمْ، وَمِنْهَا اسْتِشْهَادُهُمْ بِالْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فَانْتُقِدَ عَلَيْهِ لِعِلَّةٍ فِي سَنَدِهِ، وَذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ، وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ " وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا " وَمَعْنَاهُ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ أُسْلُوبِ اللُّغَةِ وَقَوَاعِدِ الشَّرْعِ كُنْتُ مُتَعَلِّقَ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَسَائِرِ جَوَارِحِهِ؛ أَيْ: فَلَا تُوَجِّهُ إِرَادَتُهُ هَذِهِ الْجَوَارِحَ إِلَّا إِلَى مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرْضِي رَبَّهُ، وَلَا يَنْسَى مُرَاقَبَتَهُ فِي أَعْمَالِهَا، وَكُلٌّ مِنَ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ وَوَحْدَةِ الشُّهُودِ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَمِنْ شِعْرِهِمْ فِي ذَلِكَ:
أَعَارَتْهُ طَرْفًا رَآهَا بِهْ ... فَكَانَ الْبَصِيرُ بِهَا طَرْفَهَا
وَلِلشَّيْخِ مُحْيِ الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ كَلَامٌ فِي كُلِّ مَا سَبَقَ ذِكْرَهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ فِي الْوَحْدَةِ فِي الْبَابِ الْحَادِي وَالْأَرْبَعَمِائَةِ مِنَ الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ وَهُوَ:
كَلِمَةٌ لِابْنِ عَرَبِيٍّ فِي الرُّؤْيَةِ:
" قَالَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ (٦: ١٠٣) وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَنْ تَرَانِي وَكُلُّ مَرْئِيٍّ لَا يَرَى الرَّائِيَ - إِذَا رَآهُ - مِنْهُ إِلَّا قَدْرَ مَنْزِلَتِهِ وَرُتْبَتِهِ فَمَا رَآهُ وَمَا رَأَى إِلَّا نَفْسَهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا تَفَاضَلَتِ الرُّؤْيَةُ فِي الرَّائِينَ، إِذْ لَوْ كَانَ هُوَ الْمَرْئِيُّ مَا اخْتَلَفُوا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ هُوَ مَجْلَى رُؤْيَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ؛ لِذَلِكَ وَصَفُوهُ أَنَّهُ يَتَجَلَّى وَأَنَّهُ يُرَى، وَلَكِنْ شُغِلَ الرَّائِي بِرُؤْيَتِهِ نَفْسَهُ فِي مَجْلَى الْحَقِّ حَجَبَهُ عَنْ رُؤْيَةِ الْحَقِّ، فَلِذَلِكَ لَوْ لَمْ تَبْدُ لِلرَّائِي صُورَتُهُ أَوْ صُورَةُ كَوْنٍ مِنَ الْأَكْوَانِ رُبَّمَا كَانَ يَرَاهُ، فَمَا حَجَبَنَا عَنْهُ إِلَّا أَنْفُسُنَا، فَلَوْ زِلْنَا عَنَّا مَا رَأَيْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَبْقَى ثَمَّ بِزَوَالِنَا مَنْ يَرَاهُ؟ وَإِنْ نَحْنُ لَمْ نَزَلْ فَمَا نَرَى إِلَّا أَنْفُسَنَا فِيهِ وَصُوَرَنَا وَقَدَرَنَا وَمَنْزِلَتَنَا، فَعَلَى كُلِّ حَالٍ مَا رَأَيْنَاهُ، وَقَدْ نَتَوَسَّعُ فَنَقُولُ: قَدْ رَأَيْنَاهُ وَنُصَدِّقُ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ قُلْنَا، رَأَيْنَا الْإِنْسَانَ صَدَقْنَا فِي أَنْ نَقُولَ رَأْيَنَا مَنْ مَضَى مِنَ النَّاسِ، وَمَنْ بَقِيَ وَمَنْ فِي زَمَانِنَا مِنْ كَوْنِهِمْ إِنْسَانًا لَا مِنْ حَيْثُ شَخْصِيَّةُ كُلِّ إِنْسَانٍ، وَلَمَّا كَانَ الْعَالَمُ أَجْمَعُهُ وَآحَادُهُ عَلَى صُورَةِ حَقٍّ، وَرَأَيْنَا الْحَقَّ فَقَدْ رَأَيْنَا وَصَدَقْنَا، وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى عَيْنِ التَّمْيِيزِ فِي عَيْنِ عَيْنٍ لَمْ نَصْدُقْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute