فِي حَدِيثِ الدَّجَّالِ وَدَعْوَاهُ أَنَّهُ إِلَهٌ، فَعَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ أَحَدَنَا لَا يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ؛ لِأَنَّ الْغِطَاءَ لَا يَنْكَشِفُ عَنِ الْبَصَرِ إِلَّا بِالْمَوْتِ، وَالْبَصَرُ مِنَ الْعَبْدِ هَوَيَّةُ الْحَقِّ فَعَيْنُكَ غِطَاءٌ عَلَى بَصَرِ الْحَقِّ، فَبَصَرُ الْحَقِّ أَدْرَكَ الْحَقَّ وَرَآهُ لَا أَنْتَ، فَإِنَّ اللهَ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (٦: ١٠٣) وَلَا أَلْطَفَ مِنْ هَوِيَّةٍ تَكُونُ عَيْنُ بَصَرِ الْعَبْدِ، وَبَصَرُ الْعَبْدِ لَا يُدْرِكُ اللهَ، وَلَيْسَ فِي الْقُوَّةِ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ الْبَصَرَيْنِ، وَالْخَبِيرُ عَلِمَ الذَّوْقَ فَهُوَ الْعَلِيمُ خِبْرَةً أَنَّهُ بَصَرُ الْعَبْدِ فِي بَصَرِ الْعَبْدِ، وَكَذَا هُوَ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ حَيًّا فَقَدِ اسْتَوَى الْمَيِّتُ وَالْحَيُّ فِي كَوْنِهِ - الْحَقَّ تَعَالَى - بَصَرُهُمَا وَمَا عِنْدَهُمَا شَيْءٌ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَحِلُّ فِي شَيْءٍ، وَلَا يَحِلُّ فِيهِ شَيْءٌ إِذْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٤٢: ١١) اهـ. وَقَدْ تَكَلَّمَ عَنِ الْآيَةِ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى وَعَلَى جَمِيعِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَكَلَامُهُ مُتَعَارِضٌ بَعْضُهُ بِتَأَوُّلٍ بِتَكَلُّفٍ أَوْ بِدُونِ تَكَلُّفٍ.
كَلِمَةٌ فِي النُّورِ وَالْحُجُبِ وَالتَّجَلِّي فِي الصُّوَرِ:
قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي (مَدَارِجِ السَّالِكِينَ، شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ) لِلْهَرَوِيِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَنْزِلَةِ (اللَّحْظِ) مَا نَصَّهُ: " وَنُورُ الْكَشْفِ عِنْدَهُمْ هُوَ مَبْدَأُ الشُّهُودِ، وَهُوَ نُورُ تَجَلِّي مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى عَلَى الْقَلْبِ، فَتُضِيءُ بِهِ ظُلْمَةُ الْقَلْبِ، وَيَرْتَفِعُ بِهِ حِجَابُ الْكَشْفِ، وَلَا تَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِ هَذَا فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، فَإِنَّكَ تَجِدُ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ " تَجَلِّي الذَّاتِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا، وَتَجَلِّي الصِّفَاتِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا، وَتَجَلِّي الْأَفْعَالِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا "، وَالْقَوْمُ عِنَايَتُهُمْ بِالْأَلْفَاظِ، فَيَتَوَهَّمُ الْمُتَوَهِّمُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ تَجَلِّيَ حَقِيقَةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ لِلْعِيَانِ، فَيَقَعُ مَنْ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي الشَّطَحَاتِ وَالطَّامَّاتِ، وَالصَّادِقُونَ الْعَارِفُونَ بَرَاءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُشِيرُونَ إِلَى كَمَالِ الْمَعْرِفَةِ، وَارْتِفَاعِ حُجُبِ الْغَفْلَةِ وَالشَّكِّ وَالْإِعْرَاضِ، وَاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى الْقَلْبِ بِمَحْوِ شُهُودِ السِّوَى بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا يَشْهَدُ الْقَلْبُ سِوَى مَعْرُوفِهِ، وَيَنْظُرُونَ هَذَا بِطُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِنَّهَا إِذَا طَلَعَتِ انْطَمَسَ نُورُ الْكَوَاكِبِ، وَلَمْ تَعْدَمِ الْكَوَاكِبُ، وَإِنَّمَا غَطَّى عَلَيْهَا نُورُ الشَّمْسِ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهَا وُجُودٌ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي أَمَاكِنِهَا، وَهَكَذَا نَرَى الْمِعْرَفَةَ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْقَلْبِ وَقَوَى سُلْطَانُهَا وَزَالَتِ الْمَوَانِعُ وَالْحُجُبُ عَنِ الْقَلْبِ، وَلَا يُنْكِرُ هَذَا إِلَّا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ الذَّاتَ الْمُقَدَّسَةَ وَالْأَوْصَافَ بَرَزَتْ وَتَجَلَّتْ لِلْعَبْدِ كَمَا تَجَلَّى سُبْحَانَهُ لِلطُّورِ، وَكَمَا يَتَجَلَّى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلنَّاسِ إِلَّا غَالِطٌ فَاقِدٌ لِلْعِلْمِ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الْغَلَطُ مِنَ التَّجَاوُزِ مِنْ نُورِ الْعِبَادَاتِ وَالرِّيَاضَةِ وَالذِّكْرِ إِلَى نُورِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ الصَّحِيحَةَ وَالرِّيَاضَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَالذِّكْرَ الْمُتَوَاطِئِ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ يُوجِبُ نُورًا عَلَى قَدْرِ قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ، وَرُبَّمَا قَوِيَ ذَلِكَ النُّورُ حَتَّى يُشَاهَدَ بِالْعِيَانِ فَيَغْلَطُ فِيهِ ضَعِيفُ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ وَمُقْتَضَيَاتِ الْعُبُودِيَّةِ فَيَظُنُّهُ نُورُ الذَّاتِ، وَهَيْهَاتَ ثُمَّ هَيْهَاتَ نُورُ الذَّاتِ لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كَشَفَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْحِجَابَ عَنْهُ لَتَدَكْدَكَ الْعَالَمُ كُلُّهُ كَمَا تَدَكْدَكَ الْجَبَلُ وَسَاخَ لَمَّا ظَهَرَ لَهُ الْقَدْرُ الْيَسِيرُ مِنَ التَّجَلِّي.
"
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute