للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مَا وَرَدَ فِي " النُّورِ " مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَقَدْ سَمَّى اللهُ - تَعَالَى - نَفْسَهُ نُورًا، وَوَرَدَ النُّورُ فِي أَسْمَاءِهِ الْحُسْنَى الْمَأْثُورَةِ، وَأَسْنَدَ النُّورَ إِلَى اسْمِ الذَّاتِ فِي قَوْلِهِ: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (٢٤: ٣٥) وَأَسْنَدَهُ رَسُولُهُ إِلَى وَجْهِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: " أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ " وَمِثْلُهُ فِي آثَارٍ أُخْرَى وَالْجُمْهُورُ يُفَسِّرُونَ الْوَجْهَ بِالذَّاتِ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ النُّورِ غَيْرَ إِضَافَتِهِ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا (٣٩: ٦٩) وَقَوْلُهُ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ (٦١: ٨) عَلَى أَنَّ نُورَهُ فِي الْأَخِيرَةِ كِتَابُهُ وَوَحْيُهُ وَكَلَامُهُ الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الْأَظْهَرِ مَا فِيهِ آيَاتُ الْهِدَايَةِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلَنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ (٥: ٤٤) وَمِثْلَهُ إِطْلَاقُ اسْمِ النُّورِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (٥: ١٦) عَلَى وَجْهٍ، وَوَرَدَ مِثْلُ هَذَا فِي كُتُبِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ عِنْدَ النَّصَارَى مَرْوِيًّا عَنِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَقَوْلِ يُوحَنَّا فِي رِسَالَتِهِ الْأُولَى " (١: ٥) وَهَذِهِ هِيَ الْبُشْرَى الَّتِي سَمِعْنَاهَا مِنْهُ وَنُبَشِّرُكُمْ بِهَا: أَنَّ اللهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ أَلْبَتَّةَ " وَأُطْلِقَ النُّورُ عَلَى الْمَسِيحِ نَفْسِهِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ إِنْجِيلَيْ لُوقَا وَيُوحَنَّا.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ النُّورَ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، فَالْأَوَّلُ يُرَى بِالْبَصَرِ وَيَرَى بِهِ الْبَصَرُ سَائِرَ الْمُبْصِرَاتِ، وَالثَّانِي يُدْرَكُ بِالْبَصِيرَةِ وَتَدْرِكُ بِهِ الْبَصِيرَةُ الْحَقَّ وَالْخَيْرَ

وَالصَّلَاحَ، كَذَلِكَ نُورُ الْآخِرَةِ قِسْمَانِ: حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، وَأَمَّا نُورُ اللهِ - تَعَالَى - الَّذِي هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ قَدْ أُضِيفَ إِلَى وَجْهِهِ وَأُسْنِدَ إِلَى ذَاتِهِ فَهُوَ فَوْقَ هَذَا وَذَاكَ لَا يَعْرِفُ كُنْهَهُ سِوَاهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَهُوَ غَيْرُ النُّورِ الَّذِي هُوَ حِجَابُهُ الْمَانِعُ مِنْ رُؤْيَةِ ذَاتِهِ وَإِدْرَاكِ كُنْهِهِ، وَلَا يَكْبُرَنَّ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ الْمُعْجَبُ بِنَفْسِكِ هَذَا الْعَجْزُ عَنْ إِدْرَاكِ نُورِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَإِنَّ هَذَا النُّورَ الْحِسِّيَّ الَّذِي تَرَاهُ بِعَيْنِكَ لَا تَدْرِكُ حَقِيقَتَهُ، وَلَمْ يُدْرِكْهَا أَحَدٌ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِكَ إِلَى الْآنِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنَّ يَضَعَ لَهُ تَعْرِيفًا يُحَدِّدُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُتَقَدِّمُونَ يَعْرِفُونَ مِنْهُ إِلَّا مَا يَرَوْنَهُ مِنْ نَارِ الْأَرْضِ وَنَيِّرَاتِ السَّمَاءِ، ثُمَّ عَرَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ هَذِهِ الْكَهْرُبَاءَ وَالرَّادْيُو، فَدَخَلَ بِذَلِكَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ فِي طَوْرٍ جَدِيدٍ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ فَوْقَ طَوْرِ الْعَقْلِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالْعِلْمِ الَّتِي انْتَهَى إِلَيْهَا الْبَشَرُ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ مُبَالَغَةً، وَقَدْ كَانَتِ الصُّوفِيَّةُ تَقُولُ: إِنَّ وَرَاءَ مُدْرَكِ عُقُولِ الْبَشَرِ عُلُومًا صَحِيحَةً مُنْطَبِقَةً عَلَى حَقَائِقَ خَارِجِيَّةٍ لَا مَحْضَ نَظَرِيَّاتٍ فِكْرِيَّةٍ فَيَقُولُ مُدَّعُو الْفَلْسَفَةِ وَالْمَنْطِقِ: إِنَّ هَذِهِ خُرَافَاتٌ خَيَالِيَّةٌ، قَالَ ابْنُ الْفَارِضِ:

فَثَمَّ وَرَاءَ الْعَقْلِ عِلْمٌ يَدُقُّ عَنْ ... مَدَارِكِ غَايَاتِ الْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ

فَأَيُّ عَقْلٍ كَانَ يَتَصَوَّرُ أَنَّهُ يُمْكِنُ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ أَنْ يُوقِدَ مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْمَصَابِيحِ فِي دَارٍ أَوْ مَدِينَةٍ كَبِيرَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، وَأَنْ يُطْفِئَهَا فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ؟ وَأَنَّ هَذِهِ الْمَصَابِيحَ تُوقَدُ بِلَا زَيْتٍ وَلَا نَارٍ، وَإِنَّمَا تُشْعَلُ بِتَحْرِيكِ هَنَةٍ صَغِيرَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْهَا وَلَكِنَّهَا مُتَّصِلَةٌ. . بِهَا بِسِلْكٍ دَقِيقٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>