للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كَوْنِكَ مُلْتَبِسًا بِجِدٍّ وَعَزِيمَةٍ وَحَزْمٍ، أَوْ أَخْذًا بِقُوَّةٍ وَعَزْمٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا تَكْوِينُ شَعْبٍ جَدِيدٍ بِتَرْبِيَةٍ جَدِيدَةٍ شَدِيدَةٍ مُخَالِفَةٍ كُلَّ الْمُخَالَفَةِ لِمَا نَشَأَ عَلَيْهِ مِنَ الذُّلِّ وَالْعُبُودِيَّةِ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَالْإِنْسِ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ وَمَفَاسِدِهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُتَوَلِّي تَرْبِيَةَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَالْمُرْشِدُ لَهُمْ صَاحِبَ عَزِيمَةٍ قَوِيَّةٍ وَبَأْسٍ شَدِيدٍ وَعَزْمٍ ثَابِتٍ، فَإِنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ سِيَاسَتِهِمْ وَتَرْبِيَتِهِمْ، وَيَفْشَلُ فِي تَنْفِيذِ أَمْرِ اللهِ فِيهِمْ.

وَأَمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا قِيلَ إِنَّ (أَحْسَنِ) هُنَا بِمَعْنَى ذِي الْحُسْنِ التَّامِّ الْكَامِلِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى تَفْضِيلِ شَيْءٍ عَلَى آخَرَ، وَهُوَ مَا يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ: اسْمُ التَّفْضِيلِ عَلَى غَيْرِ بَابِهِ - أَيْ: وَأَمُرْ قَوْمَكَ بِالِاسْتِمْسَاكِ وَالِاعْتِصَامِ بِهَذِهِ الْمَوَاعِظِ وَالْأَحْكَامِ الْمُفَصَّلَةِ فِي الْأَلْوَاحِ الَّتِي هِيَ كَامِلَةُ الْحَسَنِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى الْأَصْلِ فِيهِ مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ الْحَقِيقِيُّ وَالِاعْتِبَارِيُّ وَالْإِضَافِيُّ، فَأُصُولُ الْعَقَائِدِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ - تَعَالَى - وَتَوْحِيدُهُ وَتَنْزِيهُهُ أَفْضَلُ وَأَشْرَفُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ هُنَا، قِيلَ: إِلَّا إِذَا أُرِيدَ بِالْأَخْذِ الشُّرُوعُ وَالِابْتِدَاءُ - وَالْأَوَامِرُ أَفْضَلُ مِنَ النَّوَاهِي، وَيَصِحُّ أَنْ تُرَادَ فِي مِثْلِ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَالنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْوَصَايَا الَّتِي كُتِبَتْ فِي الْأَلْوَاحِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادَةِ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يَتَحَلَّى بِهِ الْعَقْلُ، وَتَتَزَكَّى بِهِ النَّفْسُ، وَتَرْكُ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ أَمْرٌ سَلْبِيٌّ مَحْضٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَثَرًا لِلْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ، وَسَدًّا لِلذَّرِيعَةِ فَلَا قِيمَةَ لَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ إِلَّا لِأَنَّهُ مِنْ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ، وَإِلَّا فَقَدَ يَتْرُكُهُ الْمَرْءُ لِعَدَمِ الدَّاعِيَةِ، وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا - وَالْفَرْضُ أَفْضَلُ مِنَ النَّفْلِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الْوَصَايَا الْعَشْرِ نَوَافِلُ، وَيُقَالُ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِمْ:

وَالْعَزِيمَةُ أَفْضَلُ مِنَ الرُّخْصَةِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلُ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ (٣٩: ٥٥) وَالْمَجَالُ فِيهِ أَوْسَعُ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ أَحْسَنُ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَى خَلْقِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ بِإِكْمَالِهِ تَعَالَى الدِّينَ بِهِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَزَايَاهُ، وَالْخِطَابُ فِيهِ لِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ؛ أَيْ: لِلنَّاسِ كَافَّةً، لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ (٣٩: ٥٤) ثُمَّ إِنَّ فِيمَا أَنْزَلَهُ فِيهِ الْعَزِيمَةُ وَالرُّخْصَةُ، وَفِيهِ مِنَ النَّدْبِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ مُقَابِلِهِ كَالصَّدَقَةِ بِالدِّينِ بَدَلَ إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ بِهِ وَهُوَ وَاجِبٌ، وَكَالْعَفْوِ فِي مُقَابَلَةِ الْقِصَاصِ.

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ مِنْ حِكَايَةِ خِطَابِهِ لِقَوْمِ مُوسَى بِالتَّبَعِ لَهُ، وَإِذَا وَجَّهَ الْأَمْرَ فِيمَا قَبْلَهُ إِلَيْهِ وَإِلَيْهِمْ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي مَقُولِ الْقَوْلِ الَّذِي خُوطِبَ بِهِ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قِصَّتِهِمْ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ عَاقِبَةِ الَّذِينَ فَسَقُوا عَنْ أَمْرِ اللهِ، وَجَحَدُوا بِآيَاتِهِ فَلَمْ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ لَمْ تَأْخُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَتَتَّبِعُوا أَحْسَنَهُ كُنْتُمْ فَاسْقِينَ عَنْ أَمْرِ رَبِّكُمْ، فَيَحِلُّ بِكُمْ مَا حَلَّ بِالْفَاسِقِينَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ الَّذِينَ أَنْجَاكُمُ اللهُ مِنْهُمْ وَنَصَرَكُمْ عَلَيْهِمْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>