للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَسَيُرِيكُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ بَعْدَكُمْ مِنَ الْغَرَقِ، أَوِ الْفَاسِقِينَ مِنْ سُكَّانِ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ وَالْمُبَارَكَةِ الَّتِي وَعَدَكُمْ إِيَّاهَا، وَسَيَنْصُرُكُمْ عَلَيْهِمْ بِطَاعَتِكُمْ لَهُ وَأَخْذِكُمْ مِيثَاقَهُ بِقُوَّةٍ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهَا: أَيْ سَتَرَوْنَ عَاقِبَةَ مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَخَرَجَ عَنْ طَاعَتِي كَيْفَ يَصِيرُ إِلَى الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ وَالتَّبَابِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَإِنَّمَا قَالَ: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِمَنْ يُخَاطِبُهُ: سَأُرِيكَ غَدًا مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ حَالُ مَنْ خَالَفَنِي - عَلَى وَجْهِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ لِمَنْ عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ، ثُمَّ نَقَلَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ - أَيْ: مِنْ أَهْلِ الشَّامِ - وَأُعْطِيكُمْ إِيَّاهَا، وَقِيلَ: مَنَازِلُ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَاللهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ انْفِصَالِ مُوسَى وَقَوْمِهِ عَنْ بِلَادِ مِصْرَ، وَهُوَ خِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ دُخُولِهِمُ التِّيهَ، وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ، وَمِنْ مَبَاحِثِ رَسْمِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ أَنَّ كَلِمَةَ (سَأُرِيكُمْ) زِيدَ فِيهَا وَاوٌ قَبْلَ الرَّاءِ لِئَلَّا تُشْتَبَهُ بِـ " سَأَرَاكُمْ " إِذْ كَانُوا يَرْسُمُونَهَا بِالْيَاءِ غَيْرَ مَنْقُوطَةٍ، فَالْمُرَادُ بِهَا ضَبْطُ الْكَلِمَةِ كَالضَّمَّةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

وَالْعِبْرَةُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَتَذَكَّرَهَا وَيَتَدَبَّرَهَا كُلُّ قَارِئٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ:

(أَحَدُهَا) أَنَّ الْكِتَابَ الْإِلَهِيَّ يَجِبُ أَخْذُهُ بِقُوَّةٍ وَإِرَادَةٍ وَجِدٍّ وَعَزِيمَةٍ؛ لِتَنْفِيذِ مَا هَدَى إِلَيْهِ مِنَ الْإِصْلَاحِ، وَتَكْوِينِ الْأُمَّةِ تَكْوِينًا جَدِيدًا صَالِحًا، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي الرَّسُولِ

الْمُبَلِّغِ لَهُ، وَالدَّاعِي إِلَيْهِ وَالْمُنَفِّذِ لَهُ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ، لِيَكُونَ لِقَوْمِهِ فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ - تَعَالَى - فِي سَائِرِ الِانْقِلَابَاتِ وَالتَّجْدِيدَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِدَايَةِ الدِّينِ، وَالدِّينُ أَحْوَجُ إِلَى الْقُوَّةِ وَالْعَزِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ إِصْلَاحٌ لِلظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَخْذِ الْكِتَابِ أَوْ مِيثَاقِ الْكِتَابِ بِقُوَّةٍ، أَمْرًا مَقْرُونًا بِتَهْدِيدِهِمْ وَتَخْوِيفِهِمْ مِنْ وُقُوعِ جَبَلِ الطُّورِ بِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢: ٦٣ و٩٣) وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَعْرَافِ) وَقَدْ أَخَذَ سَلَفُنَا الْقُرْآنَ بِقُوَّةٍ فَسَادُوا بِهِ جَمِيعَ الْأُمَمِ الَّتِي كَانَ لَهَا مِنَ الْقُوَى الْعَدَدِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَالنِّظَامِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ وَالصِّنَاعِيَّةِ مَا لَيْسَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا سَادُوا بِالْعَمَلِ بِهِدَايَتِهِ كَمَا أَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - لَا بِالتَّغَنِّي بِقِرَاءَتِهِ فِي الْمَحَافِلِ، وَلَا بِالتَّبَرُّكِ الْمَحْضِ بِالْمُصْحَفِ، كَمَا يَفْعَلُ مُقَلِّدَةُ الْخَلَفِ الصَّالِحِ، إِنَّ مَنْ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ بِقُوَّةٍ يَكُونُ الْقُرْآنُ حُجَّةً لَهُ فَيَسْعَدُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَا يَأْخُذُهُ بِقُوَّةٍ يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ فَيَشْقَى بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ، وَهَجْرِ هِدَايَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٢: ٢٦و٢٧) .

(ثَانِيهَا) أَنَّ سَبَبَ تَخْوِيفِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ تَبْلِيغِهِمُ الْمِيثَاقَ الْإِلَهِيَّ بِوِقٌوعِ الْجَبَلِ بِهِمْ، وَأَمْرِهِمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَنْ يَأْخُذُوهُ بِقُوَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ الَّتِي أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ بِأَخْذِهَا بِقُوَّةٍ شَاقَّةٍ حَرِجَةٍ، وَحِكْمَةُ مَا فِيهَا مِنَ الشِّدَّةِ وَالْحَرَجِ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ مُسْتَذِلِّينَ بِاسْتِعْبَادِ الْمِصْرِيِّينَ لَهُمْ مُنْذُ أَجْيَالٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ الْقَوْمُ أَوِ الْأَقْوَامُ الَّذِينَ وُعِدُوا بِأَنْ يَغْلِبُوهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>