لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لُغَةً وَلَا عَادَةً، وَإِنَّمَا يَقَعُ مَا يَقَعُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ بِقَصْدٍ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ هُنَا قَطْعًا - وَإِنْ كَانَ الْغَضَبُ مَظَنَّةً لَهُ. فَعَلِمَ بِهَذَا أَنَّ مَا أَطَالَ بِهِ بَعْضُهُمْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ.
وَمَاذَا كَانَ جَوَابُ هَارُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ هُنَا، وَفِي سُورَةِ طه " ابْنَ أُمِّ " بِكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى حَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ لِلتَّخْفِيفِ، وَهِيَ تُطْرَحُ فِي الْمُنَادَى الْمُضَافِ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ وَعَلَّلُوهَا بِزِيَادَةِ التَّخْفِيفِ، وَبِالتَّشْبِيهِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ، وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ " ابْنَ أُمِّي " بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: قِيلَ: كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَإِنْ صَحَّ فَإِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَى الْأُمِّ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمَا مِنْ بَطْنٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ أَدْعَى إِلَى الْعَطْفِ وَالرِّقَّةِ وَأَعْظَمُ لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ، وَلِأَنَّهَا كَانَتْ مُؤْمِنَةً فَاعْتَدَّ بِنَسَبِهَا، وَلِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي قَاسَتْ فِيهِ الْمَخَاوِفَ وَالشَّدَائِدَ فَذَكَّرَهُ بِحَقِّهَا اهـ، وَهُوَ حَسَنٌ إِلَّا قَوْلَهُ فَاعْتَدَّ بِنَسَبِهَا فَإِنَّ النَّسَبَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَاسْمُ أُمِّهِمَا (يوكابد) بِنْتُ لَاوِي كَمَا فِي التَّوْرَاةِ عِنْدَهُمْ.
وَالْمَعْنَى: يَا ابْنَ أُمِّي لَا تَعْجَلْ بِمُؤَاخَذَتِي وَتَعْنِيفِي فَإِنَّنِي لَمْ آلُ جَهْدًا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْقَوْمِ وَالنُّصْحِ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَضْعَفُونِي فَلَمْ يَرْعَوُوا لِنُصْحِي وَلَمْ يَمْثُلُوا أَمْرِي، بَلْ قَارَبُوا أَنْ يَقْتُلُونِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أَيْ: فَلَا تَفْعَلْ بِي مِنَ الْمُعَاتَبَةِ وَالْإِهَانَةِ مَا يُشْمِتُ بِيَ الْأَعْدَاءَ، وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ بِأَنْ تُلِزَّنِي بِهِمْ فِي قَرْنٍ مِنَ الْغَضَبِ وَالْمُؤَاخَذَةِ فَلَسْتُ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْنِي بِالْأَعْدَاءِ وَالظَّالِمِينَ فَرِيقًا وَاحِدًا وَهُمُ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ فَوَجَدُوا عَلَيْهِ وَكَادُوا يَقْتُلُونَهُ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ دُونَ مُوسَى فِي قُوَّةِ الْإِرَادَةِ وَشِدَّةِ الْعَزِيمَةِ، وَهُوَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا وَعُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَمَاذَا كَانَ مِنْ أَثَرِ هَذَا الِاسْتِعْطَافِ فِي قَلْبِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي أَيِ: اغْفِرْ لِي مَا أَغْلَظْتُ عَلَيْهِ بِهِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، وَاغْفِرْ لَهُ مَا عَسَاهُ قَصَّرَ فِيهِ مِنْ مُؤَاخَذَةِ الْقَوْمِ، لِمَا تَوَقَّعَهُ مِنَ الْإِيذَاءِ حَتَّى الْقَتْلِ: وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ بِجَعْلِهَا شَامِلَةً لَنَا، وَاجْعَلْنَا مَغْمُورِينَ فِيهَا، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ " وَارْحَمْنَا " وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَهَذَا ثَنَاءٌ؛ يَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ الثِّقَةِ فِي الرَّجَاءِ، وَالدُّعَاءُ فِي جُمْلَتِهِ أَقْوَى فِي اسْتِعْتَابِ هَارُونَ مِنَ الِاعْتِذَارِ لَهُ، وَأَدَلُّ عَلَى تَخْيِيبِ أَمَلِ الْأَعْدَاءِ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُثِيرُ حَفِيظَةَ الشَّمَاتَةِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَعْلِيلِهِ: لِيُرْضِيَ أَخَاهُ وَيُظْهِرَ لِأَهْلِ الشَّمَاتَةِ رِضَاهُ عَنْهُ - فَلَا تَتِمُّ لَهُمْ شَمَاتَتُهُمْ - وَاسْتَغْفَرَ لِنَفْسِهِ مِمَّا فَرَطَ مِنْهُ إِلَى أَخِيهِ، وَلِأَخِيهِ أَنْ عَسَى فَرَّطَ فِي حُسْنِ الْخِلَافَةِ، وَطَلَبَ أَلَّا يَتَفَرَّقَا عَنْ رَحْمَتِهِ، وَلَا تَزَالُ مُنْتَظِمَةً لَهُمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute