للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ " إِنْ " نَافِيَةٌ، وَالْفِتْنَةُ: الِاخْتِبَارُ وَالِامْتِحَانُ مُطْلَقًا أَوْ بِالْأُمُورِ الشَّاقَّةِ، وَالْبَاءُ فِي " بِهَا " لِلسَّبَبِيَّةِ؛ أَيْ: مَا تَمْلِكُ الْفِعْلَةَ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا لِأَخْذِ الرَّجْفَةِ إِيَّاهُمْ إِلَّا مِحْنَتُكَ وَابْتِلَاؤُكَ الَّذِي جَعَلْتَهُ سَبَبًا لِظُهُورِ اسْتِعْدَادِ النَّاسِ وَمَا طُوِيَتْ عَلَيْهِ سَرَائِرُهُمْ مِنْ ضَلَالٍ وَهِدَايَةٍ، وَمَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ مِنْ عُقُوبَةٍ وَمَثُوبَةٍ، وَسُنَّتُكَ فِي جَرَيَانِ مَشِيئَتِكَ فِي خَلْقِكَ بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ، وَالنِّظَامِ الْحَكِيمِ فِي الْخَلْقِ، تُضِلُّ بِمُقْتَضَاهَا مَنْ تَشَاءُ مِنْ عِبَادِكَ، وَلَسْتَ بِظَالِمٍ لَهُمْ فِي تَقْدِيرِكَ، وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ وَلَسْتَ بِمُحَابٍ لَهُمْ فِي

تَوْفِيقِكَ، بَلْ أَمْرُ مَشِيئَتِكَ دَائِرٌ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ، وَلَكَ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ أَيْ: أَنْتَ الْمُتَوَلِّي لِأُمُورِنَا، وَالْقَائِمُ عَلَيْنَا بِمَا تَكْتَسِبُ نُفُوسُنَا فَاغْفِرْ لَنَا مَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمُؤَاخَذَةُ وَالْعِقَابُ مِنْ مُخَالَفَةِ سُنَّتِكَ، أَوِ التَّقْصِيرِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَعِبَادَتِكَ، بِأَنْ تَسْتُرَ ذَلِكَ عَلَيْنَا، وَتَجْعَلَهُ بِعَفْوِكَ كَأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنَّا، وَارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ الْخَاصَّةِ فَوْقَ مَا شَمَلْتَ بِهِ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مِنْ رَحْمَتِكَ الْعَامَّةِ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ حِلْمًا وَكَرَمًا وَجُودًا فَلَا يَتَعَاظَمُكَ ذَنْبٌ، وَلَا يُعَارِضُ غُفْرَانَكَ مَا يُعَارِضُ غُفْرَانَ سِوَاكَ مِنْ عَجْزٍ أَوْ ضَعْفٍ أَوْ هَوَى نَفْسٍ - وَمَا ذُكِرَ فِي الْمَغْفِرَةِ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ مِثْلِهِ فِي الرَّحْمَةِ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ - أَيْ: وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ رَحْمَةً وَأَوْسَعُهُمْ فِيهَا فَضْلًا وَإِحْسَانًا، فَإِنَّ رَحْمَةَ جَمِيعِ الرَّاحِمِينَ مِنْ خَلْقِكَ، نَفْحَةٌ مُفَاضَةٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ رَحْمَتِكَ. حُذِفَ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِذِكْرِ الْمَغْفِرَةِ، فَإِنَّ تَرْتِيبَ التَّذْيِيلِ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ تَعَالَى عَلَى طَلَبِ مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ مَعًا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الثَّنَاءُ بِهِمَا مَعًا، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْأُولَى لِدَلَالَتِهَا عَلَى الثَّانِيَةِ قَطْعًا، فَهُوَ مِنَ الْإِيجَارِ الْمُسَمَّى فِي عِلْمِ الْبَدِيعِ الِاكْتِفَاءَ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا مَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ اكْتَفَى بِذِكْرِ الْمَغْفِرَةِ؛ لِأَنَّهَا الْأَهَمُّ وَلَمْ يَكْتَفِ بِذِكْرِ الرَّحْمَةِ؛ لِأَنَّهَا أَعَمُّ، وَلِأَنَّهَا قَدْ تَسْتَلْزِمُ الْمَغْفِرَةَ دُونَ الْعَكْسِ، فَإِنَّ مَعْنَى الْمَغْفِرَةِ سَلْبِيٌّ؛ وَهُوَ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الذَّنْبِ، وَالرَّحْمَةُ فَوْقَ ذَلِكَ فَهِيَ إِحْسَانٌ إِلَى الْمُذْنِبِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ، فَلَا يَلِيقُ خَلْعُ الْحُلُلِ النَّفْسِيَّةِ، إِلَّا عَلَى الْأَبْدَانِ النَّظِيفَةِ، وَقَدْ قَالَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي دُعَائِهِ لِنَفْسِهِ وَلِأَخِيهِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ (٧: ١٥١) الْآيَةَ، وَقَالَ نُوحٌ عَنْ تَوْبَتِهِ مِنْ سُؤَالِهِ النَّجَاةَ لِوَلَدِهِ الْكَافِرِ: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (١١: ٤٧) وَعَلَّمَنَا تَعَالَى مِنْ دُعَائِهِ فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا (٢: ٢٨٦) وَقَلَّمَا ذُكِرَ اسْمُ (الْغَفُورِ) فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ إِلَّا مَقْرُونًا بِاسْمِهِ (الرَّحِيمِ) وَمِنْ غَيْرِ الْأَكْثَرِ قَرْنُهُ بِالشَّكُورِ وَبِالْحَلِيمِ وَالْوَدُودِ وَيَقْرُبُ مَعْنَاهُنَّ مِنْ مَعْنَى الرَّحِيمِ، وَوَرَدَ قَرْنُهُ بِالْعَفُوِّ وَبِالْعَزِيزِ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ ذَلِكَ.

وَدُعَاءُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُنَا لِنَفْسِهِ مَعَ قَوْمِهِ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ قَدِ اقْتَضَاهُ مَقَامُ الْمُنَاجَاةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>