ذَكَرَ الْإِنْجِيلَ وَالسِّيَاقُ فِي قَوْمِ مُوسَى؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ
بِالذَّاتِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَمِمَّا هُوَ مَأْثُورٌ عَنِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ: لَمْ أُبْعَثْ إِلَّا إِلَى خِرَافِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ. وَلَا يُعَارِضُهُ مَا رَوَوْا عَنْهُ مِنْ أَمْرِهِ تَلَامِيذَهُ أَنْ يُكْرِزُوا بِالْإِنْجِيلِ فِي الْخَلِيقَةِ كُلِّهَا، إِذْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا أَنْ يُرَادَ بِالْخَلِيقَةِ مَا كَانُوا يُسَمُّونَهُ (الْيَهُودِيَّةَ) وَالْعِبَارَةُ الْأَوْلَى نَصٌّ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَقَالَ أَبُو السُّعُودِ: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا بِاسْمِهِ وَنُعُوتِهِ الشَّرِيفَةِ بِحَيْثُ لَا يَشُكُّونَ أَنَّهُ هُوَ؛ وَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: يَجِدُونَ نَعْتَهُ أَوْ وَصْفَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ، وَالظَّرْفُ (عِنْدَهُمْ) لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ، وَأَنَّ شَأْنَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَاضِرٌ عِنْدَهُمْ لَا يَغِيبُ عَنْهُمْ اهـ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي فَصْلٍ خَاصٍّ.
ثَالِثُهَا وَرَابِعُهَا - قَوْلُهُ: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ أَهَمِّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ عِنْدَ بِعْثَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِمَا كُتِبَ. وَالْمَعْرُوفُ مَا تَعْرِفُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ حُسْنَهُ، وَتَرْتَاحُ الْقُلُوبُ الطَّاهِرَةُ لَهُ لِنَفْعِهِ وَمُوَافَقَتِهِ لِلْفِطْرَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ الْعَاقِلُ الْمُنْصِفُ السَّلِيمُ الْفِطْرَةِ أَنْ يَرُدَّهُ أَوْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ إِذَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ. وَالْمُنْكَرُ مَا تَنْكِرُهُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ الْقُلُوبُ، وَتَأْبَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا. وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْمَعْرُوفِ بِمَا أَمَرَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، وَالْمُنْكَرِ بِمَا نَهَتْ عَنْهُ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ تَفْسِيرِ الْمَاءِ بِالْمَاءِ. وَكَوْنُ مَا قُلْنَاهُ يُثْبِتُ مَسْأَلَةَ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّينَ وِفَاقًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَخِلَافًا لِلْأَشْعَرِيَّةِ مَرْدُودٌ إِطْلَاقُهُ بِأَنَّنَا إِنَّمَا نُوَافِقُ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ، وَنُخَالِفُهُ مِنْ وَجْهٍ اتِّبَاعًا لِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفَهْمِ السَّلَفِ لَهُمَا فَلَا نُنْكِرُ إِدْرَاكَ الْعُقُولِ لِحُسْنِ الْأَشْيَاءِ مُطْلَقًا، وَلَا نُقَيِّدُ التَّشْرِيعَ بِعُقُولِنَا، وَلَا نُوجِبُ عَلَى اللهِ شَيْئًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا، بَلْ نَقُولُ: إِنَّهُ لَا سُلْطَانَ لِشَيْءٍ عَلَيْهِ، فَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ مَا شَاءَ إِنْ شَاءَ كَمَا كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لِمَنْ شَاءَ، وَأَنَّ مِنَ الشَّرْعِ مَا لَمْ تَعْرِفِ الْعُقُولُ حُسْنَهُ قَبْلَ شَرْعِهِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا شَرَعَهُ تَعَالَى يُطَاعُ بِلَا شَرْطٍ وَلَا قَيْدٍ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَا نَصُّهُ: هَذِهِ صِفَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهَكَذَا كَانَتْ حَالُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِخَيْرٍ وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَنْ شَرٍّ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا سَمِعْتَ اللهَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَارْعِهَا سَمْعَكَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ تُؤْمَرُ بِهِ، أَوْ شَرٌّ تُنْهَى عَنْهُ، وَمِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ وَأَعْظَمِهِ
مَا بَعَثَهُ اللهُ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالنَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، كَمَا أَرْسَلَ بِهِ جَمِيعَ الرُّسُلِ قَبْلَهُ، كَمَا قَالَ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (١٦: ٣٦) وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - وَذَكَرَ سَنَدَهُ إِلَى أَبِي حُمَيْدٍ، وَأَبِي أَسِيدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute