الْكَلَامُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) الْآيَةَ فِيهِ وُجُوهٌ: (أَحَدُهَا) : أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى حَادِثَةٍ وَقَعَتْ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِسَبْعِينَ سَنَةً، وَهِيَ دُخُولُ (تَيْطَسَ الرُّومَانِيِّ) بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَتَخْرِيبُهَا حَتَّى صَارَتِ الْمَدِينَةُ تَلًّا مِنَ التُّرَابِ، وَهَدْمُهُ هَيْكَلَ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا بَعْضُ الْجُدُرِ الْمُدَعْثَرَةِ، وَإِحْرَاقُهُ مَا كَانَ عِنْدَ الْيَهُودِ مِنْ نُسَخِ التَّوْرَاةِ، وَكَانَ الْمَسِيحُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ أَوْعَدَ الْيَهُودَ بِذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ أَتْبَاعَ الْمَسِيحِ هُمُ الَّذِينَ هَيَّجُوا الرُّومَانِيِّينَ وَأَغْرَوْهُمْ بِهَذَا الْعَمَلِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا أَدْرِي هَلْ يَصِحُّ هَذَا الْخَبَرُ أَمْ لَا، فَإِنَّ قَائِلِيهِ لَمْ يَأْتُوا عَلَيْهِ بِأَدِلَّةٍ وَلَا بِنُقُولٍ تَارِيخِيَّةٍ، وَلَكِنَّنِي أَعْلَمُ أَنَّ الْمَسِيحِيِّينَ عَلَى قِلَّتِهِمْ وَتَشَتُّتِهِمْ
وَاسْتِخْفَائِهِمْ مِنِ اضْطِهَادِ الْيَهُودِ كَانُوا قَدْ وَصَلُوا إِلَى (رُومِيَّةَ) وَكَانُوا يَوَدُّونَ الْإِيقَاعَ بِالْيَهُودِ الَّذِينَ اضْطَرُّوهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ بِلَادِهِمُ انْتِقَامًا مِنْهُمْ، وَتَحْقِيقًا لِوَعِيدِ الْمَسِيحِ، وَأَنَّ الرُّومَانِيِّينَ - وَإِنْ كَانُوا وَثَنِيِّينَ يَرَوْنَ أَنَّ الْيَهُودَ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ - لَمْ تَكُنْ حُرُوبُهُمْ دِينِيَّةً وَإِنَّمَا كَانُوا يُحَارِبُونَ الْيَهُودَ وَغَيْرَهُمْ لِشَغَبِهِمْ وَفِتَنِهِمْ أَوْ لِلطَّمَعِ فِي بِلَادِهِمْ وَذَلِكَ لَا يَقْضِي بِهَدْمِ الْمَعْبَدِ وَإِحْرَاقِ كُتُبِ الدِّينِ، فَهَذِهِ قَرَائِنُ تُرَجِّحُ أَنَّهُ كَانَ لِلْمَسِيحِيِّينَ يَدٌ فِي إِغَارَةِ تَيْطَسَ، وَلَكِنْ لَا يُجْزَمُ بِهِ إِلَّا إِذَا وُجِدَ نَقْلٌ تَارِيخِيٌّ صَحِيحٌ يُؤَيِّدُ الْخَبَرَ.
وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ الطَّبَرِيَّ قَالَ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّ الْآيَةَ فِي اتِّحَادِ الْمَسِيحِيِّينَ مَعَ (بَخْتِنْصَرَ الْبَابِلِيِّ) عَلَى تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعَ أَنَّ حَادِثَةَ بَخْتِنْصَرَ كَانَتْ قَبْلَ وُجُودِ الْمَسِيحِ وَالْمَسِيحِيَّةِ بِسِتِّمِائَةٍ وَثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُؤَرِّخًا مِنْ أَكْبَرِ الْمُؤَرِّخِينَ لَالْتُمِسَ لَهُ الْعُذْرُ بِحَمْلِ قَوْلِهِ عَلَى حَادِثَةِ (أَدْرِينَالَ الرُّومَانِيِّ) الَّذِي جَاءَ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةٍ، وَبَنَى مَدِينَةً عَلَى أَطْلَالِ أُورْشَلِيمَ وَزَيَّنَهَا وَجَعَلَ فِيهَا الْحَمَّامَاتِ، وَبَنَى هَيْكَلًا لِلْمُشْتَرَى عَلَى أَطْلَالِ هَيْكَلِ سُلَيْمَانَ، وَحَرَّمَ عَلَى الْيَهُودِ دُخُولَ هَذِهِ الْمَدِينَةِ، وَجَعَلَ جَزَاءَ مَنْ يَدْخُلُهَا الْقَتْلَ؛ فَلِذَلِكَ كَانَ الْيَهُودُ يُسَمُّونَهُ (بَخْتِنْصَرَ الثَّانِيَ) لِشِدَّةِ مَا قَاسَوْا مِنْ ظُلْمِهِ وَاضْطِهَادِهِ. وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا لِلْمُؤَرِّخِ.
(الثَّانِي) : ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) نَزَلَ فِي مَنْعِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ فِي قِصَّةِ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَّةِ، وَقَالُوا: إِنَّ حَادِثَةَ الرُّومَانِيِّينَ كَانَتْ قَدْ طَالَ عَلَيْهَا الْأَمَدُ فَلَا مُنَاسَبَةَ لِإِرَادَتِهَا بِالْآيَةِ.
وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مَا سَعَوْا فِي خَرَابِ الْكَعْبَةِ، بَلْ كَانُوا عَمَرُوهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانُوا يُعَظِّمُونَهَا وَيَرَوْنَهَا مَنَاطَ عِزِّهِمْ وَمَحِلَّ شَرَفِهِمْ وَفَخْرِهِمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute