للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الرِّسَالَةَ وَالْوَحْيَ مِنَ اللهِ لِبَعْضِ الْبَشَرِ، فَكَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَدْعُوهُمْ أَوَّلًا إِلَى التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ عُنْوَانُ الْإِسْلَامِ، وَبَابُ الدُّخُولِ فِيهِ ; لِأَنَّهُ الرَّكْنُ الْأَعْظَمُ، ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ يُقِيمُ لَهُمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَهُوَ إِفْرَادُ اللهِ وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ، وَعَلَى حَقِّيَّةِ الرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مَعَ دَفْعِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الشُّبُهَاتِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَرَاهُ مُفَصَّلًا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي هِيَ أَجْمَعُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِذَلِكَ، وَكَذَا فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَيَلِي ذَلِكَ دَعَوْتُهُمْ إِلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِهَا الْكُلِّيَّةِ فِي الْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ وَالْحَلَّالِ وَالْحَرَامِ، ثُمَّ إِلَى الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَكَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَبِالْوَحْيِ

وَالرُّسُلِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَلَكِنْ دَخَلَتْ عَلَى أَكْثَرِهِمُ الْوَثَنِيَّةُ الْقَدِيمَةُ بِجَمِيعِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا وَلَاسِيَّمَا النَّصَارَى الَّذِينَ أَقَامُوا عَقِيدَتَهُمْ عَلَى أَسَاسِ التَّثْلِيثِ الْمَعْرُوفِ عَنْ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْهُنُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَزْعُمُونَ أَنَّ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ مَحْصُورَةٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْعَثَ اللهُ رَسُولًا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَانَتِ التَّوْرَاةُ قَدْ فُقِدَتْ فِي غَزْوَةِ الْبَابِلِيِّينَ لَهُمْ، ثُمَّ كَتَبَ بَعْضُهُمْ لَهُمْ تَوْرَاةً بَعْدَ عِدَّةِ قُرُونٍ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَارِيخٍ دِينِيٍّ مُشْتَمِلٍ عَلَى قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى عَهْدِ مُوسَى وَهَارُونَ، وَعَلَى مَا تَذَكَّرَ الْكَاتِبُ مِنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مَعَ تَحْرِيفٍ وَأَغْلَاطٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ الْإِنْجِيلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ وَعْظٍ وَتَعْلِيمٍ وَبِشَارَةٍ قَدِ ادَّعَاهُ كَثِيرُونَ فَظَهَرَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ بَعْدَهُ زُهَاءَ سَبْعِينَ إِنْجِيلًا اخْتَارَ الْجُمْهُورُ الَّذِي جَمَعَ شَمْلَهُ الْمَلِكُ قُسْطَنْطِينُ - الْوَثَنِيُّ الَّذِي تَنَصَّرَ سِيَاسَةً - أَرْبَعَةً مِنْهَا فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْخِلَافِ وَالتَّعَارُضِ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِثَلَاثَةِ قُرُونٍ، وَفَشَا فِيهِمْ مُنْذُ عَهْدِ هَذَا الْمَلِكِ الْوَثَنِيِّ الْمُتَنَصِّرِ عِبَادَةُ السَّيِّدَةِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ وَغَيْرِهَا مِنَ الصَّالِحِينَ حَتَّى صَارَتِ الْكَنَائِسُ النَّصْرَانِيَّةُ كَهَيَاكِلِ الْأَوْثَانِ مَمْلُوءَةً بِالصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمَعْبُودَةِ - فَكَانَتْ دَعْوَةُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِيَّاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَحُجَجُهُ عَلَيْهِمُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ تَخْتَلِفُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ عَنْ دَعْوَةِ الْمُشْرِكِينَ الْأَصْلِيِّينَ، كَمَا تَرَاهُ مَبْسُوطًا فِي السُّوَرِ الطِّوَالِ الْأَرْبَعِ الْأُولَى: الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ - فَفِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَقَرَةِ مِنَ الْقُرْآنِ: يُوَجِّهُ أَكْثَرَ الْكَلَامِ إِلَى الْيَهُودِ، وَذُكِرَتْ فِيهِ النَّصَارَى بِالْعَرَضِ - وَأَوَائِلُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ نَزَلَتْ فِي حِجَاجِ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَفِي أَوَاخِرِ النِّسَاءِ كَلَامٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْثَرُهُ فِي النَّصَارَى. وَجُلُّ سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً وَالنَّصَارَى خَاصَّةً.

وَأَمَّا هَذَا الْعَصْرُ فَقَدْ كَثُرَتْ فِيهِ الْمَلَاحِدَةُ وَالْمُعَطِّلَةُ، وَتَجَدَّدَتْ لِلْكُفَّارِ عَلَى اخْتِلَافِ فِرَقِهِمْ شُبُهَاتٌ جَدِيدَةٌ يَتَوَكَّئُونَ فِيهَا عَلَى مَسَائِلَ مِنَ الْعُلُومِ الْعَصْرِيَّةِ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْأَقْدَمِينَ، وَحَدَثَتْ لِلنَّاسِ آرَاءٌ وَمَذَاهِبُ فِي الْحَيَاةِ فِيهَا الْحَسَنُ وَالْقَبِيحُ، وَالنَّافِعُ

<<  <  ج: ص:  >  >>