للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالضَّارُّ، بَلْ مِنْهَا مَا قَدْ يُفْضِي إِلَى فَسَادِ الْعَالَمِ، وَتَقْوِيضِ دَعَائِمِ الْعُمْرَانِ، وَمَثَارُ ذَلِكَ كُلِّهِ ذُيُوعُ التَّعَالِيمِ الْمَادِّيَّةِ، وَفَوْضَى الْآدَابِ، وَتَدَهْوُرُ الْأَخْلَاقِ، وَتَغَلُّبُ الرَّذَائِلِ عَلَى الْفَضَائِلِ، وَقَدْ ظَهَرَ هَذَا الْفَسَادُ فِي أَفْظَعِ صُورَةٍ فِي حَرْبِ الْمَدَنِيَّةِ الْكُبْرَى وَمَا وَلَّدَتْهُ مِنْ تَفَاقُمِ شَرَهِ

الْمُسْتَعْمِرِينَ وَشَرِّهِمْ وَفَظَائِعِهِمْ فِي الشَّرْقِ، وَانْتِشَارِ الْبَلْشَفِيَّةِ وَمَفَاسِدِهِمْ فِي الْبِلَادِ الرُّوسِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَبَثِّ دَعْوَتِهَا فِي الْعَالَمِ - فَصَارَ مِنَ الْوَاجِبِ مُرَاعَاةُ ذَلِكَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ وَالِاحْتِجَاجِ لَهُ، وَرَدِّ الشُّبَهِ الَّتِي تُوَجَّهُ إِلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا (آيَ ٣: ١٠٤) حَاجَةَ الدَّاعِي إِلَى الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الزَّمَانِ إِلَى أَحَدَ عَشَرَ عِلْمًا مِنْهَا السِّيَاسَةُ وَلُغَاتُ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ تُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الدَّعْوَةُ، وَأَشَرْتُ هُنَالِكَ إِلَى مَقَالَةٍ كُنْتُ كَتَبْتُهَا قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْمَنَارِ فِي الدَّعْوَةِ وَطَرِيقِهَا وَآدَابِهَا.

اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ لُغَةُ الْإِسْلَامِ:

وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي بَحْثِ اتِّبَاعِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ لُغَتِهِ الَّتِي هِيَ لُغَةُ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ، وَأَمَرَ جَمِيعَ مَنِ اتَّبَعَهُ وَدَانَ بِدِينِهِ أَنْ يَتَعَبَّدَهُ بِهِ، وَأَنْ يَتْلُوَهُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ مَعَ التَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِيهِ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِتْقَانِ لُغَتِهِ وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ، فَالْمُسْلِمُونَ يُبَلِّغُونَ الدَّعْوَةَ لِكُلِّ قَوْمٍ بِلُغَتِهِمْ، حَتَّى إِذَا مَا هَدَى اللهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ عَلَّمُوهُ أَحْكَامَهُ وَلُغَتَهُ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ الْخُلَفَاءُ الْفَاتِحُونَ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ وَمَا بَعْدَهَا، إِلَى أَنْ تَغَلَّبَتِ الْأَعَاجِمُ عَلَى الْعَرَبِ، وَسَلَبُوهُمُ الْمُلْكَ فَوَقَفَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَضَعُفَ الْعِلْمُ بِالْعَرَبِيَّةِ إِلَى أَنْ قَضَى عَلَيْهَا التُّرْكُ وَحَرَّمَتْهَا حُكُومَتُهُمْ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، لِتَقْطَعَ كُلَّ صِلَةٍ لَهُمْ بِدِينِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَبَاحِثَ فِي مَجَلَّةِ الْمَنَارِ تَفْصِيلًا.

وَمِمَّا نَشَرْنَاهُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ مَقَالٌ فِي لُغَةِ الْإِسْلَامِ نَشَرْنَاهُ أَوَّلًا فِي بَعْضِ الْجَرَائِدِ الْيَوْمِيَّةِ، وَفِيهِ تَصْرِيحٌ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ بِوُجُوبِ تَعَلُّمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِي رِسَالَتِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ إِلَّا بِلِسَانِهِمْ ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ: " فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا الْحُجَّةُ فِي أَنَّ كِتَابَ اللهِ مَحْضٌ بِلِسَانِ الْعَرَبِ لَا يَخْلِطُهُ فِيهِ غَيْرُهُ؟ فَالْحُجَّةُ فِيهِ كِتَابُ اللهِ، قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (١٤: ٤) .

" فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ الرُّسُلَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانُوا يُرْسَلُونَ إِلَى قَوْمِهِمْ خَاصَّةً، وَأَنَّ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً؟ (قِيلَ) : فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بُعِثَ بِلِسَانِ قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَيَكُونُ عَلَى النَّاسِ كَافَّةً أَنْ يَتَعَلَّمُوا

لِسَانَهُ، أَوْ مَا يُطِيقُونَهُ مِنْهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>