للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلَيْسَتْ عِبَادَاتُ الْإِسْلَامِ وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا أَيْضًا فَإِنَّ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا حَتَّى الْمَدَنِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالتَّشْرِيعِ، وَقَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ مِنْ جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى تَوَقُّفِ الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرْعِ، وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ عَلَى مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مَعْرِفَةً تُمَكِّنُ صَاحِبَهَا مَنْ فَهْمِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ وَضَّحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَبَيَّنَّا وَجْهَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ فِي كِتَابِ (الْخِلَافَةِ - أَوِ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى) فَتُرَاجَعْ فِيهِ.

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ إِقَامَةَ دِينِ الْإِسْلَامِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى لُغَةِ كِتَابَةِ الْمُنَزَّلِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ الْمُرْسَلِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ هِدَايَتُهُ الرُّوحِيَّةُ، وَرَابِطَتُهُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَحُكُومَتُهُ الْعَادِلَةُ الْمَدَنِيَّةُ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا فِي عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ أَحْوَجَ إِلَى الْوَحْدَةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَيْهِمُ الْمُتَوَقِّفَةِ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ مِنْهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي تَمَزَّقُوا فِيهِ كُلَّ مُمَزَّقٍ فَأَصْبَحُوا أَكْلَةً لِمَنْهُومِي الِاسْتِعْمَارِ وَمُسْتَعْبِدِي الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ وَصَدَقَ فِيهِمْ قَوْلُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا الْحَدِيثَ.

بَحْثُ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ:

سَيَقُولُ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ لِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَكَوْنِهِ دِينًا رُوحَانِيًّا مَدَنِيًّا سِيَاسِيًّا، وَبَعْضُ أُولِي الْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ: إِنَّ مُقْتَضَى مَا ذَكَرْتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِقَامَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا يَجِبُ إِلَّا بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَلِمَاذَا لَا يَجُوزُ عَلَى شُعُوبِ الْمُسْلِمِينَ مَا جَازَ عَلَى شُعُوبِ النَّصَارَى مَثَلًا مِنْ تَرْجَمَةِ كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ بِلُغَاتِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ وَمِلَّةِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ .

وَنَقُولُ: (أَوَّلًا) إِنَّ الْمَسْأَلَةَ عِنْدَنَا مَسْأَلَةُ نَقْلٍ وَاتِّبَاعٍ لَا مَسْأَلَةُ رَأْيٍ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَئِمَّتَنَا مُجْمِعُونَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا (وَثَانِيًا) إِنَّنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ لَا نَعْتَقِدُ أَنَّ النَّصَارَى عَلَى مِلَّةِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا يَصِحُّ أَنَّ نَزِيدَ عَلَى ذِكْرِ اعْتِقَادِنَا هَذَا فِي صَحِيفَةٍ عُمُومِيَّةٍ وَثَالِثًا (إِنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ لِلْبَشَرِ تَرْجَمَةً تُؤَدِّي مَعَانِيَهُ تَأْدِيَةً تَامَّةً كَمَا أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى وَيَبْقَى بِهَا مُعْجِزًا وَآيَةً - مُتَعَذِّرَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا بِالْإِيضَاحِ فِي مَجَلَّتِنَا (الْمَنَارِ) وَلَا مَحَلَّ لَهُ هُنَا. (وَرَابِعًا) إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ تَرْجَمَةَ الْكِتَابِ لَا تُخِلُّ بِفَهْمِ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ وَتَشْرِيعِهِ أَفَلَا تُخِلُّ بِمَا هُوَ مَوْضُوعُ هَذَا الْمَقَالِ مِنْ وُجُوبِ وَحْدَتِهِمْ وَتَعَارُفِهِمْ وَتَعَاوُنِهِمْ - وَتَوَقُّفُ ذَلِكَ عَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ ضَرُورِيٌّ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ لُغَةَ جَمِيعِ أَفْرَادِ شُعُوبِهِمْ فَلْتَكُنْ مِمَّا يُتْقِنُهُ طَوَائِفُ رِجَالِ الدِّينِ وَدُعَاةُ الْوَحْدَةِ وَالِاتِّفَاقِ مِنْهُمْ؟ بَلَى بَلَى اهـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>