للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْكَثِيرَةِ الصَّرِيحَةِ فِيهَا، وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ عَلَيْهَا، وَعَدَمِ شُذُوذِ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ وَالْفِرَقِ حَتَّى الْمُبْتَدَعَةِ عَنْهَا، فَقَدْ كَثُرَ الْخِلَافُ وَالتَّفَرُّقُ فِي الدِّينِ، وَتَعَدَّدَتِ الْأَحْزَابُ وَالشِّيَعُ فِي الْمُسْلِمِينَ، عَلَى مَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ فِي الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ، وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَارْتَدَّ بَعْضُ الْفِرَقِ عَنِ الدِّينِ، بِضُرُوبٍ مِنْ فَاسِدِ التَّأْوِيلِ، وَسَخَافَاتٍ مِنْ أَبَاطِيلِ التَّحْرِيفِ، كَمَا فَعَلَ زَنَادِقَةُ الْبَاطِنِيَّةِ، وَغَيْرُهُمْ، قَبْلَ أَنْ يَقْوُوا وَيُصَرِّحُوا بِكُفْرِهِمْ، وَلَمْ تَقُمْ فِرْقَةٌ تَنْتَمِي إِلَى الْإِسْلَامِ بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَلَا ضَلَّتْ طَائِفَةٌ بِتَرْجَمَةِ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ وَالْآذَانِ ; لِأَجْلِ الِاسْتِغْنَاءِ بِهَا فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ، عَنِ اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَإِنَّمَا قُصَارَى مَا وَقَعَ مِنَ الْخِلَافِ فِيمَا حَوْلَ ذَلِكَ مِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ، وَمِنْ تَصْوِيرِ الْفُقَهَاءِ لِلْوَقَائِعِ النَّادِرَةِ، أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ أَعْجَمِيٌّ مَثَلًا، وَأَرَدْنَا تَعْلِيمَهُ الصَّلَاةَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ لِسَانُهُ أَنْ يَنْطِقَ بِأَلْفَاظِ الْفَاتِحَةِ فَهَلْ يُصَلِّي بِمَعَانِيهَا مِنْ لُغَتِهِ، أَمْ يَسْتَبْدِلَ بِهَا بَعْضُ الْأَذْكَارِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَأْثُورَةِ مُؤَقَّتًا رَيْثَمَا يَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، أَمْ يُصَلِّيَ بِتَرْجَمَةِ الْفَاتِحَةِ بِلُغَتِهِ؟ نُقِلَ الْقَوْلُ الْأَخِيرِ عَنْ أَبِي

حَنِيفَةَ وَحْدَهُ مَعَ مُخَالَفَةِ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ لَهُ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ إِلَى الْإِجْمَاعِ، وَمَا يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ عَمِلَ بِهِ (عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي عَمَلِ أَحَدٍ وَلَا فِي قَوْلِهِ، غَيْرَ الْمَعْصُومِ) فَكَانَ هَذَا الْإِجْمَاعُ الْعَامُّ الْمُطْلَقُ مِمَّا يُؤَيِّدُ حَفِظَ اللهِ تَعَالَى لِلْقُرْآنِ، وَأَرَادَ مَلَاحِدَةُ التُّرْكِ أَنْ يُبْطِلُوهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (سُورَةُ الصَّفِّ ٦١: ٨، ٩)

مَنْشَأُ فِكْرَةِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَسَبَبُهَا:

لَقَدْ كَانَ ضَعْفُ الْخِلَافَةِ الْقُرَشِيَّةِ بِجَهْلِ الْخُلَفَاءِ وَتَرَفِهِمْ وَفِسْقِهِمْ سَبَبًا لِتَفَرُّقِ الْمُسْلِمِينَ فَتَخَاذُلِهِمْ فَضَعْفِهِمْ، إِذْ كَانَ سَبَبًا لِتَأْسِيسِ عِدَّةِ دُوَلٍ إِسْلَامِيَّةٍ تَتَنَازَعُ السُّلْطَةَ، وَلِضَعْفِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَتَرْكِ الْأَعَاجِمِ، فَاضْطِرَارِهِمْ إِلَى تَرْجَمَةِ بَعْضِ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ، وَتَدْرِيسِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْهَا بِالتَّرْجَمَةِ، فَالشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ بِلُغَاتِهِمْ لِأَجْلِ فَهْمِهِ بِالْإِجْمَالِ، ثُمَّ بِالْحَاجَةِ إِلَى تَرْجَمَتِهِ بِسَائِرِ اللُّغَاتِ لِأَجْلِ الدَّعْوَةِ بِتَرْجَمَتِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمَّا انْفَرَدَتْ دَوْلَةُ التُّرْكِ الْعُثْمَانِيِّينَ دُونَ سَائِرِ دُوَلِ الْأَعَاجِمِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِجَعْلِ لُغَتِهِمْ رَسْمِيَّةً لَهَا، ثُمَّ بِادِّعَاءِ مَنْصِبِ الْخِلَافَةِ لِسُلْطَانِهَا اقْتَضَى ذَلِكَ تَعَمُّدَ هَذِهِ الدَّوْلَةِ لِإِضْعَافِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَلِمُعَادَاتِهَا، وَلِتَفْضِيلِ لُغَةِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ عَلَى لُغَةِ كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ رَسُولِهِمْ، ثُمَّ لِتَفْضِيلِ رَابِطَةِ جِنْسِهِمْ وَلُغَتِهِمْ عَلَى رَابِطَةِ دِينِهِمْ، ثُمَّ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ هَذَا بِتِلْكَ، وَمِنْ ثَمَّ صَارَتْ جَامِعَةُ اللُّغَةِ وَالْقَوْمِيَّةِ مُعَارِضَةً لِلْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَسَبَبًا لِمُعَادَاتِهَا. ثُمَّ تَجَدَّدَ لِدُعَاةِ الْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ التُّرْكِيَّةِ سَبَبٌ آخَرُ لِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَهُوَ التَّمْهِيدُ بِهِ إِلَى الْمُرُوقِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا إِلَّا التُّرْكُ الَّذِينَ نَالُوا بِالْإِسْلَامِ دُونَ غَيْرِهِ مَا نَالُوا مِنَ الْعِزِّ وَالْمُلْكِ الْكَبِيرِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>