للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةَ الْمُكَذِّبِينَ (٦: ١١) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقُ (٢٩: ٢٠) فَعَطَفَ النَّظَرَ فِي الْأَوَّلِ بِـ " ثُمَّ " الْمُفِيدَةِ لِلتَّرَاخِي، وَفِي الثَّانِي بِـ " الْفَاءِ " الْمُفِيدَةِ لِلتَّعْقِيبِ. فَهَلْ يُوجَدُ فِي سَائِرِ اللُّغَاتِ مِثْلُ هَذَا الْعَطْفِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْمَعَانِي، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى مَعَ مُقَارَنَاتٍ أُخْرَى (ص٢٦٨ وَمَا بَعْدَهَا ج ٧ ط الْهَيْئَةِ) وَلَهُ نَظَائِرُ أُخْرَى فِي تَفْسِيرِنَا.

وَأَذْكُرُ مِنْ مَعَانِي الْأَدَوَاتِ مَا حَقَّقَهُ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَصْرِ بِـ " إِنَّمَا " وَالْحَصْرِ بِحَرْفَيِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ كَقَوْلِكَ: مَا هُوَ إِلَّا كَذَا. وَهُوَ أَنَّ مَوْضُوعَ " إِنَّمَا " عَلَى أَنْ تَجِيءَ لِخَبَرٍ لَا يَجْهَلُهُ الْمُخَاطَبُ وَلَا يَدْفَعُ صِحَّتَهُ، أَوْ لَمَّا نَزَلَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ، وَأَنَّ الْخَبَرَ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ يَكُونُ لِلْأَمْرِ يُنْكِرُهُ الْمُخَاطَبُ وَيَشُكُّ فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْقَاعِدَةَ بِالْأَمْثِلَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ (٦: ١٤٥) وَبَيَّنَّا سَبَبَ حَصْرِ هَذَا الْمَعْنَى بِـ " إِنَّمَا " فِي سُورَتَيِ النَّحْلِ وَالْبَقَرَةِ، وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلْ فِي هَذَا الْحَصْرِ، فَكَانَ لِمَا يُنْكِرُهُ الْمُشْرِكُونَ وَيَجْهَلُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَأَنَّ آيَتَيِ النَّحْلِ وَالْبَقَرَةِ نَزَلَتَا بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَتْ فِي مَعْنَى صَارَ مَعْرُوفًا، فَهَلْ يُوجَدُ مِثْلَ هَذَا الْفَرْقِ فِي الْأَدَوَاتِ فِي اللُّغَةِ التُّرْكِيَّةِ وَغَيْرِهَا؟ وَهَلْ يَفْهَمُ الْمُتَرْجِمُونَ هَذِهِ الدَّقَائِقَ فِي الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ فَيُرَاعُونَهَا فِي تَرْجَمَتِهِمْ، إِنْ كَانَتْ لُغَتُهُمْ تُسَاعِدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ ! .

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: الْفَرْقُ بَيْنَ " إِنْ " وَ " إِذَا " الشَّرْطِيَّتَيْنِ ذَكَّرَنِي بِهِ قَوْلِي الْآنَ " إِنْ

كَانَتْ لُغَتُهُمْ تُسَاعِدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ " وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي شَرْطِ " إِنْ " أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجْهَلُهُ الْمُخَاطَبُ أَوْ يُنْكِرُهُ أَوْ يَشُكُّ فِيهِ أَوْ مَا يَنْزِلُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ، وَأَنَّ شَرْطَ " إِذَا " بِخِلَافِهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمَيِ الْمَعَانِي وَالنَّحْوِ بِأَمْثِلَتِهِ.

وَأَمَّا الْجُمَلُ فَأَكْتَفِي مِنْهَا بِإِيرَادِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَهِيَ الْجُمْلَةُ الْمُفِيدَةُ بِالْحَالِ وَالْفَرْقِ فِيهَا بَيْنَ الْحَالِ الْمُفْرَدَةِ وَجُمْلَةِ الْحَالِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا (٤: ٤٣) فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ سُكَارَى جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُقَيِّدَةٌ لِلنَّهْيِ. وَقَوْلُهُ: (جُنُبًا) حَالٌ مُفْرَدَةٌ مُقَيِّدَةٌ لَهُ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الْأُولَى تُفِيدُ النَّهْيَ عَنِ السُّكَّرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِئَلَّا يَأْتِيَ وَقْتَ الصَّلَاةِ فِي حَالِ السُّكَّرِ فَيَضْطَرُّ السَّكْرَانُ إِلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ أَوْ إِلَى أَدَائِهَا وَهُوَ سَكْرَانُ وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلَا تَدُلُّ عَلَى تَرْكِ أَسْبَابِ الْجَنَابَةِ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَلَا فِي وَقْتِهَا إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فِعْلِ الطَّهَارَةِ وَأَدَاءِ الصَّلَاةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>