بِالْقَالِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِالْحَالِ، كَقَوْلِهِ: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ (١٤: ٣٤) قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ، فَلَوْ كَانَ قَدْ وَقَعَ هَذَا كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَ لَكَانَ كُلُّ أَحَدٍ يَذْكُرُهُ ; لِيُكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: إِخْبَارُ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِهِ كَافٍ فِي وُجُودِهِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُكَذِّبُونَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ، وَهَذَا جُعِلَ حُجَّةً مُسْتَقِلَّةً عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْفِطْرَةُ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا مِنَ الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ، وَلِهَذَا قَالَ: أَنْ تَقُولُوا أَيْ: لِئَلَّا تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَيْ: عَنِ التَّوْحِيدِ غَافِلِينَ: أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا الْآيَةَ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ.
وَقَدْ بَسَطَ الْعَلَامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الرُّوحِ فِي سِيَاقِ الْبَحْثِ فِي خَلْقِ الْأَرْوَاحِ قَبْلَ الْأَجْسَادِ - فَذَكَرَ الرِّوَايَاتِ الْمَرْفُوعَةَ وَالْمَوْقُوفَةَ وَالْآثَارَ فِيهَا وَمَا قِيلَ مِنَ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ فِي أَسَانِيدِهَا ثُمَّ قَالَ:.
وَهَاهُنَا أَرْبَعُ مَقَامَاتٍ (أَحَدُهَا) أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ اسْتَخْرَجَ صُوَرَهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ، فَمَيَّزَ شَقِيَّهُمْ وَسَعِيدَهُمْ وَمُعَافَاهُمْ مِنْ مُبْتَلَاهُمْ. (وَالثَّانِي) أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ حِينَئِذٍ، وَأَشْهَدَهُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِمْ مَلَائِكَتَهُ. (الثَّالِثُ) أَنَّ هَذَا هُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (الرَّابِعُ) أَنَّهُ أَقَرَّ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ كُلَّهَا بَعْدَ إِخْرَاجِهَا بِمَكَانٍ وَفَرَاغٍ مِنْ خَلْقِهَا، وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ كُلَّ وَقْتِ إِرْسَالِ جُمْلَةٍ مِنْهَا بَعْدَ جُمْلَةٍ إِلَى أَبْدَانِهَا.
(فَأَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ) فَالْآثَارُ مُتَظَاهِرَةٌ بِهِ مَرْفُوعَةً وَمَوْقُوفَةً. (وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي) فَإِنَّمَا أَخَذَهُ مَنْ أَخَذَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْآيَةِ وَظَنُّوا أَنَّهُ تَفْسِيرُهَا، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَثَرِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لِأَمْثَالِ الذَّرِّ الَّتِي أَخْرَجَهَا فَهْمًا تَعْقِلُ بِهِ كَمَا قَالَ: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ (٢٧: ١٨) وَقَدْ سَخَّرَ مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ تُسَبِّحُ مَعَهُ وَالطَّيْرَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَكُبَرَاءِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ اللهَ أَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ وَأَصْلَابِ
أَوْلَادِهِ وَهُمْ فِي صُوَرِ الذَّرِّ، فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ أَنَّهُ خَالِقُهُمْ، وَأَنَّهُمْ مَصْنُوعُونَ فَاعْتَرَفُوا بِذَلِكَ وَقَبِلُوا، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ رَكَّبَ فِيهِمْ عُقُولًا عَرَفُوا بِهَا مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ كَمَا جَعَلَ لِلْجَبَلِ عَقْلًا حِينَ خُوطِبَ، وَكَمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِالْبَعِيرِ لَمَّا سَجَدَ، وَالنَّخْلَةِ الَّتِي سَمِعَتْ وَانْقَادَتْ حِينَ دُعِيَتْ.
وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: لَيْسَ بَيْنَ قَوْلِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " إِنَّ اللهَ مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ " وَبَيْنَ الْآيَةِ اخْتِلَافٌ بِحَمْدِ اللهِ ; لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَخَذَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ فَقَدْ أَخَذَهُمْ مِنْ ظُهُورِ ذُرِّيَّتِهِ ; لِأَنَّ ذُرِّيَّةَ آدَمَ ذَرِّيَّةٌ لِذَرِّيَّتِهِ، بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَيْ: عَنِ الْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ شُهُودًا عَلَيْهِمْ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ. قَالَ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي جَاءَتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute