للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِهِ الرِّوَايَةُ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: اشْهَدُوا فَقَالُوا: شَهِدْنَا. قَالَ: وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمِيثَاقَ إِنَّمَا أُخِذَ عَلَى الْأَرْوَاحِ دُونَ الْأَجْسَادِ ; لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ هِيَ الَّتِي تَعْقِلُ وَتَفْهَمُ، وَلَهَا الثَّوَابُ وَعَلَيْهَا الْعِقَابُ، وَالْأَجْسَادُ أَمْوَاتٌ لَا تَعْقِلُ وَلَا تَفْهَمُ. قَالَ: وَكَانَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ إِسْحَاقُ: وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّهَا الْأَرْوَاحُ قَبْلَ الْأَجْسَادِ اسْتَنْطَقَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ، قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ (٣: ١٦٩) وَالْأَجْسَادُ قَدْ بَلِيَتْ، وَضَلَّتْ فِي الْأَرْضِ، وَالْأَرْوَاحُ تُرْزَقُ وَتَفْرَحُ، وَهِيَ الَّتِي تَلَذُّ وَتَأْلَمُ، وَتَفْرَحُ وَتَحْزَنُ وَتَعْرِفُ وَتُنْكِرُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الْأَحْلَامِ مَوْجُودٌ، إِنَّ الْإِنْسَانَ يُصْبِحُ وَأَثَرَ لَذَّةِ الْفَرَحِ وَأَلَمِ الْحُزْنِ بَاقٍ فِي نَفْسِهِ مِمَّا تُلَاقِي الرُّوحُ دُونَ الْجَسَدِ.

قَالَ: وَحَاصِلُ الْفَائِدَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَثْبَتَ الْحُجَّةَ عَلَى كُلِّ مَنْفُوسٍ مِمَّنْ يُبَلَّغُ، وَمِمَّنْ لَمْ يُبَلِّغْ بِالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ، وَزَادَ عَلَى مَنْ بُلِّغَ مِنْهُمُ الْحَجَّةَ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ الَّتِي نَصَبَهَا فِي نَفْسِهِ وَفِي الْعَالِمِ وَبِالرُّسُلِ الْمُنْفَذَةِ إِلَيْهِمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَبِالْمَوَاعِظِ بِالْمُثُلَاتِ الْمَنْقُولَةِ إِلَيْهِمْ أَخْبَارُهَا، غَيْرَ أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُطَالِبُ أَحَدًا مِنْهُمْ مِنَ الطَّاعَةِ إِلَّا بِقَدْرِ مَا لَزِمَهُ مِنَ الْحُجَّةِ، وَرَكَّبَ فِيهِمْ مِنَ الْقُدْرَةِ، وَآتَاهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَبَيَّنَ سُبْحَانِهِ مَا هُوَ عَامِلٌ فِي الْبَالِغِينَ الَّذِينَ أَدْرَكُوا الْأَمْرَ

وَالنَّهْيَ، وَحَجَبَ عَنَّا عِلْمَ مَا قَدَّرَهُ فِي غَيْرِ الْبَالِغِينَ، إِلَّا أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ عَدْلٌ لَا يَجُورُ فِي حُكْمِهِ، وَحَكِيمٌ لَا تَفَاوُتَ فِي صُنْعِهِ، وَقَادِرٌ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

(فَصْلٌ)

وَنَازَعَ هَؤُلَاءِ غَيْرُهُمْ فِي كَوْنٍ هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ، وَقَالُوا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أَيْ: أَخْرَجَهُمْ وَأَنْشَأَهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا نُطَفًا فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ إِلَى الدُّنْيَا عَلَى تَرْتِيبِهِمْ فِي الْوُجُودِ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ رَبُّهُمْ بِمَا أَظْهَرَ لَهُمْ مِنْ آيَاتِهِ وَبَرَاهِينِهِ الَّتِي تَضْطَرُّهُمْ إِلَى أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ خَالِقُهُمْ، فَلَيْسَ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَفِيهِ مِنْ صَنْعَةِ رَبِّهِ مَا يَشْهَدُ عَلَى أَنَّهُ بَارِيهِ، وَنَافِذُ الْحُكْمِ فِيهِ، فَلَمَّا عَرَفُوا ذَلِكَ وَدَعَاهُمْ كُلُّ مَا يَرَوْنَ وَيُشَاهِدُونَ إِلَى التَّصْدِيقِ بِهِ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِينَ وَالْمُشْهَدَيْنِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِصِحَّتِهِ. كَمَا قَالَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ (٩: ١٧) يُرِيدُهُمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِينَ، وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا نَحْنُ كَفَرَةٌ، وَكَمَا تَقُولُ: قَدْ شَهِدَتْ جَوَارِحِي بِقَوْلِكَ، تُرِيدُ: قَدْ عَرَفَتْهُ، فَكَأَنَّ جَوَارِحِي لَوِ اسْتُشْهِدَتْ وَفِي وُسْعِهَا أَنْ تَنْطِقَ لَشَهِدَتْ، وَمِنْ هَذَا إِعْلَامُهُ وَتَبْيِينُهُ أَيْضًا شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ (٣: ١٨) يُرِيدُ: أَعْلَمَ وَبَيَّنَ فَأَشْبَهَ ذَلِكَ شَهَادَةَ مَنْ شَهِدَ عِنْدَ الْحُكَّامِ وَغَيْرِهِمْ. هَذَا كَلَامُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ. وَزَادَ الْجُرْجَانِيُّ بَيَانًا لِهَذَا الْقَوْلِ فَقَالَ حَاكِيًا عَنْ أَصْحَابِهِ: إِنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ وَنَفَذَ عِلْمُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>