للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِيهِمْ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ كَالْكَائِنِ إِذْ عَلِمَهُ بِكَوْنِهِ مَانِعٌ مِنْ غَيْرِ كَوْنِهِ نَابِعٌ فِي مَجَازِ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُوضَعَ مَا هُوَ مُنْتَظَرٌ بَعْدُ - مِمَّا لَمْ يَقَعْ بَعْدُ - مَوْقِعَ الْوَاقِعِ، لَسَبْقِ عِلْمِهِ بِوُقُوعِهِ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ (٧: ٥٠) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ (٧: ٤٤) - وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ (٧: ٤٨) قَالَ: فَيَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ: وَإِذْ يَأْخُذُ رَبُّكَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَيْ: وَيُشْهِدُهُمْ بِمَا رَكَّبَهُ فِيهِمْ مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْفَهْمُ، وَيَجِبُ بِهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَكُلُّ مَنْ وُلِدَ وَبَلَغَ الْحِنْثَ، وَعَقَلَ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ، وَفَهِمَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، صَارَ كَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ فِي التَّوْحِيدِ بِمَا رَكَّبَ فِيهِ مِنَ

الْعَقْلِ، وَأَرَاهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ عَلَى حُدُوثِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَلَقَ نَفْسَهُ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ هُوَ غَيْرُهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ، وَلَيْسَ مِنْ مَخْلُوقٍ يَبْلُغُ هَذَا الْمَبْلَغَ، وَلَمْ يَقْدَحْ فِيهِ مَانِعٌ مَنْ فَهْمٍ إِلَّا إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ يَفْزَعُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَيُشِيرُ إِلَيْهَا بِإِصْبَعِهِ عِلْمًا مِنْهُ بِأَنَّ خَالِقَهُ تَعَالَى فَوْقَهُ، وَإِذَا كَانَ الْعَقْلُ الَّذِي مِنْهُ الْفَهْمُ وَالْإِفْهَامُ مُؤَدِّيًا إِلَى مَعْرِفَةِ مَا ذَكَرْنَا وَدَالًّا عَلَيْهِ، فَكُلُّ مَنْ بَلَغَ هَذَا الْمَبْلَغَ فَقَدْ أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، إِذْ جَعَلَ فِيهِ السَّبَبَ وَالْأَدِلَّةَ اللَّذَيْنِ بِهِمَا يُؤْخَذُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ، وَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ لَهُ قَدْ أَقَرَّ وَأَذْعَنَ وَأَسْلَمَ كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا (١٣: ١٥) قَالَ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ.

وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ (٣٣: ٧٢) الْأَمَانَةُ هِيَ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ. فَامْتِنَاعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ مِنْ حَمْلِ الْأَمَانَةِ خُلُوُّهَا مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْفَهْمُ وَالْإِفْهَامُ، وَحَمْلُ الْإِنْسَانِ إِيَّاهَا لِمَكَانِ الْعَقْلِ فِيهِ. قَالَ: وَلِلْعَرَبِ فِيهَا ضُرُوبُ نَظْمٍ فَمِنْهَا قَوْلُهُ:

ضَمِنَ الْقَنَانُ لِفَقْعَسٍ بِثَبَاتِهَا ... إِنَّ الْقَنَانَ لِفَقْعَسٍ لَا يَأْتَلِي

وَالْقَنَانُ: جَبَلٌ، فَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ لِفَقْعَسٍ وَضَمَانُهُ لَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ مِنْ هَزِيمَةٍ أَوْ خَوْفٍ لَجَئُوا إِلَيْهِ فَجَعَلَ ذَلِكَ كَالضَّمَانِ لَهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:

كَأَجَارِفِ الْجُولَانِ هَلَّلَ رَبَّهُ ... وَجُورَانُ مِنْهَا خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ

وَأَجَارِفُ الْجَوَلَانِ جِبَالُهَا، وَجُورَانُ الْأَرْضُ الَّتِي إِلَى جَانِبِهَا. وَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ إِنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ دَلِيلًا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ; لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمَ أَنَّ هَذَا الْأَخْذَ لِلْعَهْدِ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، وَالْغَفْلَةُ هَاهُنَا لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ:

<<  <  ج: ص:  >  >>