فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُ لَا يُخَصُّ مِنْهُ شَيْءٌ إِذَا كَانَ لَا دَلَالَةَ عَلَى خُصُوصِهِ مِنْ خَبَرٍ وَلَا عَقْلٍ " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَسَاكِرَ.
أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَافِظَ كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى التَّوْرَاةِ الَّتِي فِي أَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهِيَ عَيْنُ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا مِنْهَا إِلَّا مَا فِي اخْتِلَافِ التَّرْجَمَاتِ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ مِنَ الْفُرُوقِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَ فِيهَا اخْتِلَافٌ فِي الْمَعَانِي فَلَنْ يَصِلَ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي فِي رِوَايَاتٍ وَهْبٍ وَكَعْبٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ رُوَاةِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْكَاذِبَةِ، وَابْنِ عَسَاكِرَ يُرَجِّحُ قَوْلَ وَهْبٍ عَلَى مَا فِي التَّوْرَاةِ ; لِأَنَّهُ ثِقَةٌ عِنْدَهُ فِي الرِّوَايَةِ، وَيَعُدُّ رِوَايَتَهُ دَلِيلًا عَلَى مُعْجِزَةٍ لِلْقُرْآنِ، وَلَوْ ذَكَرَ الْقُرْآنُ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي آتَاهُ اللهُ آيَاتِهِ هُوَ بَلْعَامُ هَذَا، أَوْ لَوْ صَحَّ هَذَا فِي خَبَرٍ مُسْنَدٍ مُتَّصِلٍ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَكَانَ صَحِيحًا، وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ نَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ جَاءَ وَهْبٌ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا رَاوِيًا لِمَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَا قَالَهُ مُخَالِفٌ لِمَا عِنْدَهُمْ.
وَقِصَّةُ بَلْعَامَ مُفَصَّلَةٌ فِي الْفُصُولِ (٢٢ - ٢٤) مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ، وَفِيهَا أَنَّهَا وَقَعَتْ فِي " عَرَبَاتِ مُوَآبَ مِنْ عَبَرِ أُرْدُنِّ أَرِيحَا " مَنْ أَرْضِ مَدْيَنَ كَمَا نَقُولُ (أَوْ مَدْيَانَ كَمَا يَقُولُونَ) وَأَنَّ بَالَاقَ بْنَ صِفُّورَ (بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ) مَلِكَ الْمَوَآبِيِّينَ طَلَبَ مِنْ بَلْعَامَ بْنِ بَاعُورَ أَنْ يَلْعَنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ; لِيَنْصُرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَوَعَدَهُ بِمَالٍ كَثِيرٍ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَى بَلْعَامَ أَلَّا يَفْعَلَ فَلَمْ يَفْعَلْ.
وَفِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ لِلدُّكْتُورِ " بُوسْت " أَنَّ بَلْعَامَ هَذَا مِنْ قَرْيَةِ فَثَوْر مِنْ بَيْنِ النَّهْرَيْنِ قَالَ: وَكَانَ نَبِيًّا مَشْهُورًا فِي جِيلِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ مُوَحِّدًا يَعْبُدُ
اللهَ (! !) وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَجِيبٍ ; لِأَنَّهُ مِنْ وَطَنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّ جُرْثُومَةَ تِلْكَ الْعِبَادَةِ كَانَتْ لَمْ تَزَلْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ مَا بَيْنَ النَّهْرَيْنِ فِي أَيَّامٍ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَقَدْ ذَاعَ صِيتُ هَذَا النَّبِيِّ بَيْنَ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَعَلَا شَأْنُهُ، وَصَارَتِ النَّاسُ تَقْصِدُهُ مِنْ جَمِيعِ أَنْحَاءِ الْبِلَادِ لِيَتَنَبَّأَ لَهُمْ عَنْ أُمُورٍ مُخْتَصَّةٍ بِهِمْ، أَوْ لِيُبَارِكَهُمْ وَيُبَارِكَ مُقْتَنَيَاتِهِمْ وَمَا أَشْبَهَ " ثُمَّ ذَكَرَ حِكَايَةَ مَلِكِ مُوَآبَ مَعَهُ، فَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ بَلْعَامُ عِرَاقِيًّا لَا إِسْرَائِيلِيًّا وَلَا مُوَآبِيًّا.
وَذَكَرَ الْبُسْتَانِيُّ فِي دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْعَرَبِيَّةِ مُلَخَّصَ قِصَّةِ بَلْعَامَ " ثُمَّ قَالَ: وَبَعْضُ مُفَسِّرِي (الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ) الْمُدَقِّقِينَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قِصَّةَ " بَلْعَامَ " الْمُدْرَجَةَ فِي سِفْرِ الْعَدَدِ مِنَ الْإِصْحَاحِ (٢٢ - ٢٤) دَخِيلَةٌ إِلَخْ. فَتَأَمَّلْ! .
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةَ لَا يُعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا قِيمَةَ لِأَسَانِيدِهَا ; لِأَنَّ مَنْ يَنْتَهِي إِلَيْهِ السَّنَدُ قَدِ اغْتَرَّ بِبَعْضِ مُلَفِّقِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ حَتْمًا، وَقَدْ رَأَيْنَا شَيْخَ الْمُفَسِّرِينَ ابْنَ جَرِيرٍ لَمْ يَعْتَدْ بِهَا. وَنَرْجُو - وَقَدْ رَاجَعْنَا أَشْهَرَ مَا لَدَيْنَا مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ - أَنْ يَكُونَ مَا بَيَّنَّا بِهِ مَعْنَى الْآيَاتِ أَصَحَّهَا وَأَكْبَرَهَا فَائِدَةً.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute