بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَمُسْلِمٌ مُخْتَصَرًا، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِي اسْتِعْمَالِهِ فَاسْتَعْمَلُوهُ بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ الْعَقْلِيِّ الْمُؤَثِّرِ فِي النَّفْسِ لَا مُطْلَقَ التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ. فَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَ مَرْكَزِهِمَا الدِّمَاغُ، عَلَى أَنَّ الِاسْتِعْمَالَاتِ اللُّغَوِيَّةَ، لَا يَجِبُ أَنْ تُوَافِقَ الْحَقَائِقَ الْعِلْمِيَّةَ.
وَ " الْفِقْهُ " قَدْ فَسَّرُوهُ بِالْعِلْمِ بِالشَّيْءِ وَالْفَهْمِ لَهُ - وَكَذَا بِالْفِطْنَةِ كَمَا فِي جُلِّ الْمَعَاجِمِ أَوْ كُلِّهَا، وَقَالُوا: فَقِهَ (كَعَلِمَ وَفَهِمَ) وَزْنًا وَمَعْنًى، وَقَالُوا: فَقُهَ (كَكَرُمُ وَضَخُمَ) فَقَاهَةً أَيْ صَارَ الْفِقْهُ وَصْفًا وَسَجِيَّةً لَهُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْفِقْهُ هُوَ التَّوَصُّلُ بِعِلْمٍ شَاهِدٍ إِلَى عِلْمٍ غَائِبٍ. قَالَ السُّيُوطِيُّ بَعْدَ نَقْلِهِ: فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: إِنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنَ الشَّقِّ وَالْفَتْحِ. أَيْ هَذَا مَعْنَاهُ الْأَصْلِيُّ فَهُوَ كَالْفَقْءِ بِالْهَمْزَةِ، وَهِيَ تَتَعَاقَبُ مَعَ الْهَاءِ لِاتِّحَادِ مَخْرَجِهِمَا، وَذَكَرَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ هَذَا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْفِقْهَ بِالشَّيْءِ هُوَ مَعْرِفَةُ بَاطِنِهِ، وَالْوُصُولُ إِلَى أَعْمَاقِهِ، فَمَنْ لَا يَعْرِفُ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا ظَوَاهِرَهَا لَا يُسَمَّى فَقِيهًا، وَذَكَرَ أَصْحَابُ الْمَعَاجِمِ أَنَّ اسْمَ الْفِقْهِ غَلَبَ عَلَى عِلْمِ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، أَيْ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَهُوَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ لَا يُفَسَّرُ بِهِ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُسَمُّونَ كُلَّ مَنْ يَعْرِفُ هَذِهِ الْفُرُوعَ فَقِيهًا، كَمَا تَرَى مِنْ عِبَارَةِ الْغَزَالِيِّ الْآتِيَةِ، وَلِغَيْرِهِ مَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْهَا، فَقَدِ اشْتَرَطُوا فِيهِ مَعْرِفَتَهَا بِدَلَائِلِهَا.
وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي (بَيَانِ مَا يَدُلُّ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُلُومِ) أَنَّ لَفْظَ الْفِقْهِ تَصَرَّفُوا فِيهِ بِالتَّخْصِيصِ لَا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ، إِذْ خَصَّصُوهُ بِمَعْرِفَةِ الْفُرُوعِ الْغَرِيبَةِ فِي الْفَتَاوَى وَالْوُقُوفِ عَلَى دَقَائِقِ عِلَلِهَا. . . (قَالَ) ، وَلَقَدْ كَانَ اسْمُ الْفِقْهِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مُطْلَقًا عَلَى عِلْمِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ، وَمَعْرِفَةِ دَقَائِقِ آفَاتِ النُّفُوسِ، وَمُفْسِدَاتِ الْأَعْمَالِ، وَقُوَّةِ الْإِحَاطَةِ بِحَقَارَةِ الدُّنْيَا، وَشِدَّةِ التَّطَلُّعِ إِلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَاسْتِيلَاءِ الْخَوْفِ عَلَى الْقَلْبِ، وَيَدُلُّكَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ (٩: ١٢٢) وَمَا يَحْصُلُ
بِهِ الْإِنْذَارُ وَالتَّخْوِيفُ هُوَ هَذَا الْفِقْهُ دُونَ تَفْرِيعَاتِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَاللِّعَانِ وَالسَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ، فَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِهِ إِنْذَارٌ وَلَا تَخْوِيفٌ، بَلِ التَّجَرُّدُ لَهُ عَلَى الدَّوَامِ يُقَسِّي الْقَلْبَ وَيَنْزِعُ الْخَشْيَةَ مِنْهُ، كَمَا نُشَاهِدُ الْآنَ مِنَ الْمُتَجَرِّدِينَ لَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَأَرَادَ بِهِ مَعَانِيَ الْإِيمَانِ دُونَ الْفَتْوَى اهـ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَفْسِيرُهُ بِمَعْرِفَةِ النَّفْسِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا.
وَأَقُولُ: ذُكِرَتْ هَذِهِ الْمَادَّةُ فِي عِشْرِينَ مَوْضِعًا مِنَ الْقُرْآنِ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنْهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْ دِقَّةِ الْفَهْمِ، وَالتَّعَمُّقِ فِي الْعِلْمِ، الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَأَظْهَرَهُ نَفْيُ الْفِقْهِ عَنِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا كُنْهَ الْمُرَادِ مِمَّا نُفِيَ فِقْهُهُ عَنْهُمْ، فَفَاتَتْهُمُ الْمَنْفَعَةُ مِنَ الْفَهْمِ الدَّقِيقِ، وَالْعِلْمِ الْمُتَمَكِّنِ مِنَ النَّفْسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَوْمِ شُعَيْبٍ لِنَبِيِّهِمْ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute